السبت، 4 فبراير 2012

*الجزء الثالث

عولمتنا - دولة الأمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
الجزء الثالث .


السنن الألهية :.
الخـلافة و الاستخـلاف .

أن قوله تعالى للملائكة عندما أمرهم بالتهيؤ للسجود لآدم عندما يتم خلقه( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) (1) أن هذا القول بالطبع ليس مقصوراً على آدم بعينه ( ع ) ولكن الخليفة هو كل من يأتي من ذرية آدم من أنبياء ومرسلين وأوصياء فيما بين رسول ورسول آخر ، أي أن الخليفة هو الحاكم بأمر الله والقائم على أمور الخلق من ذرية آدم ( ع ) بتعيين من الله سبحانه ويتلقى الأوامر والتعليمات والإرشادات والنصح من الوحي مباشرةً أو بصورة غير مباشرة ، وفي بعض الحالات يتلقاها مباشرةً من الله سبحانه وتعالى دون وسيط كما في معراج رسول الله صلّى الله عليه و آله أو في تكليم موسى (ع )
إلاّ أن هذه الحاكمية أو الولاية كانت على الدوام تُجابَه بالمقاومة والتمرد والانقلاب . ولما كانت البشرية في كل حال بحاجة إلى من يتولى قيادة أمورها والقيام بالسيطرة على مقاليدها وتنظيم علاقاتها فقد كانت هناك دائماً حاكمية أو ولاية إلاّ أنها مختلفة فيما بينها اختلافاً جوهرياً، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام حسب تقسيم القرآن لهم .
القسم الأول : المستخلفون
القسم الثاني : الخالفون ( الخوالف )
القسم الثالث : المؤمّرون

القسم الأول ( المستخلفون ) :
إن نفي آدم وزوجه من الجنّة – أو من الأرض التي كان يسكنها في السماء – لم يكن أبداً يعني تركهم وذريتهم مهملين بلا هداية ولا توجيه أو نصح أو إرشاد ، بل كان الهدى يأتيهم به الوحي من السماء بما يجعلهم قادرين على قضاء عقوبة النفي جزاء معصيتهم وفق ما تقتضيه الضرورة ، بل فوق ما تقتضيه الضرورة ، من رعاية وعناية وإفاضة ، قال تعالى ( فأما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) (2) ،وهذا الهدى بالطبع هو دستور متكامل لتنظيم علاقتهم بربهم وتنظيم علاقتهم فيما بينهم ، وهذا الهدى أو الدستور أو التشريع بل الرسالة برمتها كانت متطورة من تشريع إلى تشريع ، ويبدو للكثيرين بأن هذا التطور هو ما تقتضيه تطور المجتمعات وهو تصور خاطئ تماماً ، إذ لا علاقة بما يسميه الكثيرون بالتطور الحضاري مع تطور التشريع وسعة الرسالة ، بل إن هذا التطور مرتبط فقط بالإفاضة والرحمة الإلهية على الأمة أو الأمم التي تتنزّل عليها هذه الرسالة والتشريعات ، وهذا يبدو لنا واضحاً في التفكر في أقوال الأمم والقرون السابقة لرسلهم وأنبيائهم ، فكما قال قوم نوح ( ع ) ( إن هي إلاّ أساطير الأولين ) كذلك قال قوم كل نبي بعده انتهاءً بخاتم الأنبياء ، فكل أمة ترى إنها أكثر تطوراً من سابقتها وتعتقد في نفسها الرقي والتحضر وتّتهم نبيهم بما اتهمته الأمم السالفة بأن دعوته الإلهية هي أساطير الأولين وخرافات ورجعية وهذا ما ظنته الأمة المحمدية بنبيها ( ص ) وما يظنه الغالبية العظمى حتى اليوم ، إذ يرون أنفسهم أكثر تحضراً وتطوراً من الأمم السابقة . وهو ما يكذبه القرآن بالطبع .
وإنما تطور التشريع والرسالة هي من استحقاقات المستخلفين الذين يستخلفهم الله سبحانه خلفاء لمن سبقهم ، بعد أن كفروا بأنعم الله وتمادوا في معصيتهم فاستحقّوا أن يهلكهم الله ويستخلف أمة غيرهم ورسول آخر، ويشرع لهم شريعة وينزل إليهم رسالة ، هي مع ما يتوافق مع إفاضات الله من الرحمة والتي هي السُنّة الإلهية في المؤمنين من الخلق .
ولكن هؤلاء المستخلفين دائماً وأبداً يضّيعون رسالتهم ويضلون سبيلهم ويسلكون مسالك الذين سبقوهم حال فقدهم لرسولهم أو أمامهم حتى يندثروا تماماً، وتظهر خلافة جديدة لا علاقة لها بالمستخلفين ، وسنبحث هذا الأمر بشكل مستفيض في ضوء السُنن الإلهية في القرآن الكريم .

القسم الثاني الخالفون :
في الغالب فأن كل الأمم وكل الرسالات فيها ( سقيفة ) ، ولكن فعالية ما يتم في السقيفة يشتد ويضعف بين أمّة وأمة خلال مراحل زمنية بعد انتهاء تبليغ الرسالة وارتفاع النبي والرسول ، وينزوي المستخلفون في ركن الإهمال والتخويف والتعتيم، فيظهر خلفاء غيرهم لا يعملون بشيء من الرسالة أو التشريع أو التنزيل إلاّ ببعض الرموز الشبيهة بالأصل من باب ذر الرماد في العيون لا أكثر ، قال تعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) (3)، وهؤلاء الخلف بعد أن أضاعوا أصل الاستخلاف الذي استخلف الله أمتهم لأجله، تنزلق أقدامهم شيئاً فشيئاً إلى هاوية سحيقة من الظلم والبغي ، فيجري الله فيهم سُنّة العذاب للعدول عن سلوكهم سبل الغي ، ومما يأخذهم من سُنّن العذاب هو تسليط الجبابرة والمترفين والمفسدين على مقاليدهم ومصائرهم عسى أن يتذّكروا، وفي الغالب والواقع لا يتذّكروا – إلاّ قليلاً منهم – فينزع الله الملك منهم كما نزعوه من أيدي غيرهم ، إلى المؤمّرين .
قال تعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) (4) ، فهذا الذي يهمهم من الكتاب والشريعة هو العرض الأدنى فقط ،أي المكاسب الدنيوية، حتى ينتزع المؤمرون الملك من أيديهم .

القسم الثالث : المؤمّرون :
إن ما يتحدث عنه القرآن من السنن الإلهية في الأمم والقرون السابقة ، رأيناه وعايشناه في تواريخ الأمم بعد انتهاء التبليغ واختفاء المستخلفين وتحجيم الخوالف الذين خلفوهم ، وفي كل الإمبراطوريات التي حكمت البلدان والأمم وأنشأت حضارات ، ومرت في سبيلها شأنها شأن السابقين تماماً .
قال تعالى (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) (5)
وهذا هو القسم الثالث من الحاكميات والولايات ، وهو إيتاء الملك للمترفين والجبابرة والطواغيت لإنشاء دكتاتوريات ظالمة ومستبدة ، لا تعير لسفك الدماء أية أهمية، ولا لخراب الأرض أية مهابة ، ولا للقيم والأعراف أي اعتبار ، وهذا التأمير الإلهي لهذه الدكتاتوريات هو باستحقاق هذه الأمم للدمار والخراب بعد انزلاقها في مهاوي الضلال ، وقد يقرأ البعض هذه الآية الكريمة ( أمرنا مترفيها ) بعدم تشديد الميم في ( أمرنا ) وهو لفظاً يتعارض مع القرآن الكريم والحكمة الإلهية ، حيث أن الله سبحانه لا يأمر إلاّ بالعدل والإحسان والأمر بالمعروف والبر والقسط والتقوى ، ولكن المترفين هم الذين يأمرون بالفسق ويعملون به . فيؤمّرهم الله على الظالمين ، وينتقم من الظالم بمن هو أظلم منه ومن الفاجر بمن هو أفجر منه، بعد أن يجعلهم أمراء عليهم ، فتستحق القرية أو الأمة الهلاك ليستخلف الله سبحانه أمّة أخرى مؤمنة صالحة، وهذه سُنّة الله في الخلق ، جارية أبداً منذ بدء الخليقة وحتى يوم القيامة . قال تعالى ( وكذلك نولّي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ) (6)، فرغم إن هذه الولاية هي من الله سبحانه، ككل ملك وكل ولاية هي من مالك الملك، الذي يؤتي الملك لمن يشاء و ينزعه ممن يشاء ، إلا إن هذا النوع من الولاية ، أي ولاية الأظلم للظالم هي ليس خير لهم ، بل شرّ لكليهما بما كانوا يكسبون، ونتيجتها هلاك الجميع .
إن هذه المقدمة البسيطة ستكون هي مدخلنا لدراسة السُنن الإلهية في الخلق استنباطاً من القرآن الكريم لمعرفة ما سيجري في الأرض قبل ظهور الإمام القائم المهدي(ع) ويتبين ما غفلت عنه الدراسات والبحوث السابقة ، وبالتالي غفلت عن خطورة ما سيحدث في المستقبل القريب ، رغم كل البيان الذي ورد في القرآن الكريم وأحاديث الرسول وروايات الأئمة من أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين

السُنّن الإلهية في القرآن الكريم

قال تعالى (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) (7)
قال تعالى (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (8)
وقال تعالى (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) (9).
وذكرت السُنّة الإلهية في أكثر من مورد وهي تمثل السياسة المتّبعة مع الخلق على ثوابت غير قابله للتغيير والتبديل ويمكن تقسيم أو تصنيف هذه السًنة إلى أصناف رئيسة .

سُنّة التشريع
سُنّة الغلبة القهرية
سنة التيه
سُنة العذاب
سُنة الآيات
سُنّة الإهلاك
سُنّة الاستخلاف
وسنحاول في هذا الجزء دراسة هذه السنن وإيجاد الروابط التي وردت في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وروايات أئمة أهل البيت عليهم السلام فيما بين السُنن الإلهية التي جرت في الأمم السالفة وما جرى وما سيجري في هذه الأمة أولاً ، وما سيجري في أهل الأرض مجتمعين ثانياً .

سُنّة التشريع :
قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (10) .
وقال تعالى (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) (11) .
وبالطبع فإن البداية كانت مع أبينا آدم ( ع ) حين تم نفيه من الجنة إلى هذه الأرض (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ) (12) .
والتشريع سُنّة إلهية قائمة في كل أمة ، فما من أمة إلاّ ولها نبي مرسل وشريعة ولها نذير وبشير ، يعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، وفي الآية الأولى ( الشورى 13 ) خصّ الله سبحانه الشرائع الكبرى الخمس التي جاءت بها الرسل وبقيت آثارها إلى اليوم بعد الطوفان الذي أغرق الله به أهل الأرض وأبادهم ، وذلك لوجود ترابط بين هذه الشرائع ، والقواعد الأساسية التي ترتكز إليها جميعاً، والدور البارز الذي نهض به الرسل الخمس أولي العزم في إقامة الشرائع الرئيسة ، وأما ما بين هذه الشرائع الخمس ، فهو يدور في فلكها ومشتق منها، بل هو تذكرة لها كما يتبين من القرآن الكريم، وقاعدتها الأساسية هي التسليم لرب العالمين .
وتقوم سُنّة التشريع على سُنّة الاصطفاء ، حيث أن الله سبحانه يصطفي من الخلق خيرهم في زمنه ويسند إليه دور قيادة وإمامة التشريع ويستحفظه على الأمانة التي هي إقامة الشريعة في الأمة ( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ) وعلى قراءة عبد الله بن مسعود ( وآل محمد على العالمين ) – والله أعلم - . وهو إن لم يكن نصّاً مكتوباً فهو بلا أدنى شك مغزى الآية والمراد منها .
ويتضح هذا المعنى في سورة أخرى كوجه آخر للمقارنة وهو قوله تعالى ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، فقد أتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة و آتينهم ملكاً عظيماً ) (13)، والمقارنة هنا هي بين الـ ( آل) ولذلك لم يذكر نوح ( ع ) أو آدم ( ع ) بل ( آل إبراهيم وآل عمران ) ليقول تعالى إن اصطفاءه لـ ( آل محمد ) هي سُنّة جارية وقد سبقت وعلمتموها في ( آل إبراهيم وآل عمران ) فما اعتراضكم على ( آل محمد ) واصطفائي لهم ليس بدعاً من السنن .
ومن السّنة الإلهية التي ليس لها تبديل ولا تحويل ، هي أن يكون بعد النبي المكلف بإقامة الدين والعمل بالتشريع الذي أنزل إليه ، أن يكون له أوصياء معيّنين من الله سبحانه ، عالمين بالتشريع بتعليم من النبي صاحب الشريعة وبهداية اختصاصيّه من الله سبحانه ، ليكون القيّم على الشريعة والمؤتمن على تطبيقها وإقامتها وصي من بعد وصي ، حتى نزول تشريع جديد وبعث نبي أو رسول جديد ، وقد تختلف تسمياتهم من أمة إلى أمة فقد يكونون أسباط ، أو حواريين ، أو أوصياء ، وهم في كل تسمية وفي كل أمة وفي كل تشريع ، الواحد منهم أمام وقته في قومه ليكون خليفته في الأرض .
سُنّة الغلبة القهرية :
ومن سُنّة الله في الخلق هو إتمام الرسالة إلى نهايتها ، وتبليغها إلى الأمة المرسلة إليها طوعاً أو كرهاً ، وليس مهم عند الله سبحانه بعد ذلك ما تفعل الأمة أن أرادت أن تستقيم أو تنقلب على أعقابها، ولكن المهم إتمام الحجّة على الخلق لئلا يكون لهم عذر عند الله يوم القيامة – قال تعالى ( كتب الله لأغلبّن أنا ورسلي ) (14)، وما كتبه الله هو كائن لا محالة ، وهذه الغلبة له سبحانه ولرسله لا يعني بها إكراه الناس على الإيمان ، بل قهرهم بجميع الوسائل حتى تبلّغهم الحجة وتصل إليهم الرسالة، ثم بعد ذلك من ( شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) فهم إليه راجعون على كل حال وعنده يلقون حسابهم .
وعادةً تبدأ الدعوة بالتذكير بما أنزل الله فيما سبق ، وتبيّن وجه الدعوة ، الجديدة واتفاقها مع ما سبق ، ووحدة هدف الجميع ، وهو التذكير بربوبية الله للوجود وتوّحده في الألوهية ووجوب طاعته وعبادته ، ثم الانتقال إلى أسلوب النصح والإرشاد والوعظ ، ثم إلى أسلوب الاحتجاج على المكذبين وتوعية المشركين وتفقيه الجاهلين، ويتضمن هذا الأسلوب إظهار المعجزات على أيدي صاحب الدعوة من رسول أو نبي أو أمام ووصي ، ووفق ما تقتضيه الضرورة لقيام الحجة على الخلق بأنه مرسل من ربه أو معيّن بتعيين من ربه ومؤيد منه ، ثم الانتقال إلى أسلوب الإنذار والوعيد ، ثم إلى أسلوب التخويف، ويتضمن أسلوب التخويف نزول بعض الآيات قال تعالى ( وما نرسل بالآيات إلاّ تخويفاً ) (15) ، وهذا الأسلوب هو أخطر الأساليب لأنه يعني شدة معصية الأمة وإصرارها على الغي ، والواقع فإن هذا الموضوع سيكون هو لبّة هذا الجزء من البحث .
وسنوليه الأهمية القصوى لأن كل المواضع الأخرى الهدف منها هو الوصول إلى وعي وفهم بلوغ الأمر الإلهي إلى أسلوب التخويف، وكيف سيتم وقوعه في هذه الأمة، والنتائج التي ستتمخض عنه .
وبالطبع فإن البحث في موضوع كل سُنّة من هذه السنن في القرآن الكريم وأخذ الآيات الدالة على ذلك ومطابقتها مع قصص الأنبياء والمرسلين لابد أن يكون موضوعاً هاماً وضرورياً، ولكنه يكون مطوّلاً أيضا، وقد يشكل حجم الكتاب إذا كان كبيراً هو اقتصاره على الباحثين والمختصين بالقراءة والمطالعة، ويحرم منه بسطاء الناس من المؤمنين الذين لا طاقة لهم على قراءة المؤلفات الضخمة ، ولذلك سنختصر في هذه المواضيع قدر المستطاع لنبيّن الخطوط العريضة لما نريد أن نقوله ، وعسى أن يوفقنا الله ونعود لبحثه بشكل موسع في كتاب آخر ، وإن كنا ندعو الله أن لا تحتاج إلى ذلك لقرب وقوع اليوم الموعود وظهور الأمر الخفي إن شاء الله .
وعلى أية حال فإن هذه الأساليب جميعاً يقترن معها أو مع كل منها، أسلوب الترغيب وتحبيب الإيمان إلى نفوس المؤمنين، وتبشيرهم بالعاقبة الحسنة، وكما جاء في دعاء الإمام السجاد عليه السلام ( فتتقرب إليّ وابتعد عنك ، وتتودد إليَّ فلا أقبل منك ، كأن ليّ التطوّل عليك ، ولم يمنعك ذلك من الرحمة بي والإحسان إليّ )، ثم يكون الأمر النهائي هو استنفاذ جميع الأساليب ، فإن لم تنفع إلاّ مع القلّة من المؤمنين المصدقين المخلصين ، يكون بعد ذلك أسلوب القهر وجعل الكافرين صاغرين ليكون ما كتبه الله : ( إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الإشهاد ) (16)، (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ) (17)، وهذا النصر لا يعني إلاّ إكمال تبليغ الرسالة وإلقاء الحجّة وتبيين الشريعة ، وهذه سُنّة جعلها الله سبحانه جارية مع كل رسله وفي كل شرائعه دون استثناء ، ومن خطبة لأمير المؤمنين ( ع ) قال ( وأنزل عليكم الكتاب تبياناً لكل شيء وعمّر فيكم نبيّه أزماناً ، حتى أكْمَلَ له ولكم فيما أنزل من كتابه دينه الذي رضيّ لنفسه ، وأنهى إليكم على لسانه محابّه من الأعمال ومكارهه ، ونواهيه وأوامره ، وألقى إليكم المعذرة ، واتّخذ عليكم الحجّة ، وقدم إليكم بالوعيد وأنذركم بين يدي عذاب شديد ) (18) .
وهذا هو دور الرسول فليس عليه إلاّ البلاغ وأما دون ذلك فـ (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) (19)، ( وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (20)، (لست عليهم بمسيطر ) (21)، (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) (22).

سُنّة التيه :
إن من سُنّة الله في الخلق العاصين أو المعرضين بل والمقصرين على وجه التحديد هي معاقبتهم بعقوبة التيه ، وقال تعالى ( قال فإنها محرّمةٌ عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ) (23). وهذه العقوبة التي أخذ الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بها وذكرها القرآن الكريم ، ليست العقوبة الأولى من نوعها في الأمم الماضية ، بل هي جارية في أغلب الأمم فيما نعلم على الأقل، إنْ لم يكن كل الأمم . والتيه، وإن كانت صورته الظاهرية من القرآن هي ضلالهم في صحراء سيناء أربعين سنة كلما قطعوا مسافة للخروج منها ضلوا سبيلهم وطريقهم وعادوا لقطع نفس المسافة وعكس الاتجاه فيبلغ بهم الجهد والمشقة دون الحصول على منفعة من هذا الجهد للخروج من متاهتهم وبلوغ مرامهم ، إلاّ أن البعد الحقيقي لهذا التيه كما يتبين ذلك من قول أمير المؤمنين عليه السلام هو التفريق بينهم وبين حجّة الله عليهم من رسول أو نبي أو وصي نبي ( إمام ) .
قال أمير المؤمنين فيما أنذر الأمة به مما سيلاقون من الفتن بسبب معاصيهم :
( أيها الناس ، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ، ولم تهنوا عن توهين الباطل ، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقو من قوى عليكم ، لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل . ولعمري ليضعّـفن لكم التيه من بعدي أضعافا ، بما خلفتم الحق وراء ظهوركم وقطعتم الأدنى ، ووصلتم الأبعد .) (24)
وقبل شرح هذا المعنى نبيّن لكم إن وجود الحجّة ( الرسول أو النبي أو الأمام ) على رأس الأمر هو مانع من وقوع العذاب في الأمة ، قال تعالى ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (25) ، فوجود الحجّة هو رحمة للأمة وسبب اللّطف الإلهي بها وأخذهم بالرأفة والعفو واليسر ، أما انتزاع مقاليد الأمور من يد حجّة الله بالانقلاب على أعقابهم وعلى إمامهم، هو الموجب الأول لنزول العذاب ، حتى ولو كان الحجّة قريباً منهم ، ولكنه مغلوب على أمره ولا يملك من الأمر شيء ، وتوعد الله عصاة الأمة بالانتقام منهم بعد قبض الرسول : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) (26) .
وربما يسأل من لا يعلم ، هل أن قوله تعالى (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) خاص برسول الله (ص) أم هو جارٍ في الأوصياء من بعده عليهم السلام ، ففي الهداية الكبرى ، عن أبي حمزة الثمالي عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال : ( مد الفرات عندهم بالكوفة على عهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو بها مقيم مَدة عظيمة حتى طغى وعلا كالجبال وصار بإزاء شرفات الكوفة وكان أمير المؤمنين (عليه السلام ) في ذلك اليوم قد خرج إلى النجف ، ونفرا من أصحابه فنظر إلى بعض النجف وقال للنفر الذين معه إني أرى النجف يخبر أن الماء قد طغى في الفرات حتى أوفى على منازل الكوفة وإن الناس بها ضجوا وفزعوا إلينا فقوموا بنا إليهم ، فأقبل هو والنفر إلى الكوفة وتلقاه أهلها صارخين مستغيثين فقال : " ما شأنكم طغى الماء عليكم ، ما كان الله ليعذبكم وأنا فيكم ".) (27). فما كان لرسول الله من شأن ، هو لأمير المؤمنين (ع) ثم الأوصياء من بعده ، حتى الإمام المهدي (ع) .
فأما التيه فهو وضعهم في متاهات وذلك بالتفريق بينهم وبين حجة الله عليهم أحياناً أو إخفاء الحجّة عنهم أحياناً أخرى ، وهذه السنّة الإلهية جارية في الأمم السالفة كفترة خفاء الخليل إبراهيم عليه السلام قبل ظهوره وإعلان دعوته ، وفي فترة خفاء موسى ( ع ) عندما ذهب إلى النبي شعيب ( ع ) في هروبه إلى مدين خوفاً من فرعون وملأه ، وعند قبض موسى (ع) وهم لا يعلمون أين هو ، فقد كان التيه عندما قبض الله موسى (ع) وأوصى قبل ذلك لوصيه يوشع بن نون ، فقبض موسى وهم لا يعلمون له خبر ، وكانت أيضا قبل ذلك مع إدريس (ع) واعتزاله لقومه والدعاء عليهم ، وفترة اعتزال نوح ( ع ) لقومه ودعائه عليهم :( قال ربي أني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ، فلم يزدهم دعائي الاّ فرارا* ... حتى قال : ربي لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا ) (28) ، وفي غيبة ذي القرنيين عن قومه وهذه السُنّة الإلهية جارية في هذه الأمة كما جاء في أكثر من خطبة لأمير المؤمنين ( ع ) ، وسُنّة التيه واقعة في الأمة بغيبة الأمام القائم المهدي (ع ) ، وهي عقوبة إلهية للتفريق بينها و بين أمامها ورفع مانع نزول العذاب بها ، وخاصة عذاب الاستئصال .
ولقد تناولت المباحث والدراسات حديثاً وقديماً موضوع غيبة الأمام المهدي ( عج ) ونرى إنها لم تصب الصواب في حكمة الغيبة ، إذا افترضت ذلك على ظاهر الأمر، وهو انتظار تطور المجتمعات الإنسانية إلى درجة تكون مؤهلة لعصر الظهور وإنشاء الدولة العالمية الإلهية ، ووصفت هذه المباحث والدراسات أطروحات خاطئة تماماً كما نعتقد عن عدم أهلية الأمة للظهور إلاّ في اليوم الموعود ، ولو كان هذا الاعتقاد صحيحاً فهو يعني إن وقت تنزيل الرسالة وبعث الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وآله لم يكن مناسباً من حيث أهلية الأمة لذلك ، وهو يتهّم الحكمة الإلهية البالغة بعدم الإحاطة ببواطن الأمور وعواقبها وسرائر الخلق وأهليتها ، وسبحان الله عمّا يظنّون ، وقول أمير المؤمنين عليه السلام (وليضّعفنّ لكم التيه من بعدي أضعافاً مضاعفة ) هو إخبار غيبي عن وقوع الغيبة أضعافاً مضاعفة للأربعين سنة التي تاهت بها بني إسرائيل ، فأنظر في نفسك كم تبلغ الأضعاف المضاعفة لـ(أربعين سنة)
إذن فمدّة التيه أجل مضروب ، ضربه الله سبحانه وتعالى في سابق قضائه ولا علاقة له بأهلية المجتمع وتطوره ، ولا بوعيه وإدراكه، ولا برغبته وأمنيته . وإنما ما تحدّثنا عنه في الجزء الأول من ( إنزال العلم ) وتدبير الأمر لصاحب الأمر ( عج ) وتهيئة الأسباب الكفيلة بتحقيق النصر المبين والفتح اليسير، إنما تكون في الفترة التي توشك فيها عقوبة التيه على نهايتها واقتراب الوعد الحق واليوم الموعود ، وهو أيضا سُنّة إلهية في التدبير الإلهي للأمر لجميع أنبياءه ورسله صلوات الله عليهم ، ومن أمثلة ذلك هو تدبير الأمر للنبي الأمي صلى الله عليه وآله قبل ما يقرب من مائة وخمسين عاماً من المبعث المبارك ، حيث كان الملك اليمني ( تُبّع الحميري) من المنتظرين له كانتظارنا للأمام المهدي صلوات الله عليهم ، ويتقصّى أخباره من الكتب فهداه الله لإرسال الأوس والخزرج إلى (يثرب) لأعداد الأمر لنصرة النبي الأمي (ص) بالأنصار الذين هاجر النبي إليهم
وهذا يعني إن ما يسميه البعض بالتطوّر ليس هو الكفيل بالظهور المبارك وإنما هو من إعداد الله سبحانه وتدبير الأمر قبل وقت مناسب من اليوم الموعود.
وأشار الأمير ( ع) مرة أخرى عندما سؤل عن ذي القرنين (ع) فقال عليه السلام (ضربه قومه على قرنه الأيمن فغاب عنهم مدة ثم عاد إليهم فضربوه على قرنه الأيسر ثم غاب عنهم ، وفيكم مثله) إشارة إلى غيبة القائم المهدي (عج) ولم تكن غيبة ذي القرنين لانتظار تطور قومه وتقدمهم تكنولوجياً وفكرياً كما فهمها الباحثون ، وإنما عقوبةً لقومه واستحقاقهم لهذه العقوبة ، وعدم استحقاقهم لرحمة وجود العبد الصالح (ذي القرنين) بينهم .
والأمثلة كثيرة تدل على إنّ سُنّة التيه هي سُنّة إلهية جارية في الأمم ، وجرت في هذه الأمة بغيبة إمامها (ع) عنها إلى أجل معلوم عند عالم الغيب تبارك وتعالى، يظهر بعدها برحمة من الله لإكمال دين آبائه وجده صلوات الله عليهم ، وإتمام نعمة الله على هذه الأمة وعلى أهل الأرض قاطبة، إذ تكون كل الأرض أمة واحدة هي أمّة هذا الربّاني بعد انقضاء أجل التيه .وهو أحد أعمق تفسيرين قرآنيين قدّمهما الإمام علي(ع) للغيبة، وسيأتي التفسير الآخر في محله إن شاء الله وهو " الفترة" وذلك في خطبة البيان .

سنة العذاب :
إن العذاب الذي يأخذ به الله سبحانه وتعالى الأمم العاصية والمعرضة عن رسالتها ورسولها هي سُنّة إلهية جارية في كل الأمم، وتترافق عادةً هذه السنة مع زمن( التيه ) . وما تناوله القرآن الكريم من العذاب الذي أنزله الله سبحانه بالأمم الماضية بألوانه وصنوفه، هو رادع للأمة عن التمادي في الغي وحافز لها على الطاعة، قال تعالى ( ماذا يفعل الله بعذابكم إن آمنتم ) أي إن الإيمان يترتب عليه رفع العذاب ، وإذاقة العذاب القصد منه حث الأمة على الطاعّة قال تعالى ( ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ) (29)، أي العذاب الدنيوي ،لعلهم يرجعون عن غيهم ومعصيتهم، ومن أمثلته في بني إسرائيل (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ) (30) وقوله تعالى (وأخذناهم بالسنين) وهو الجوع ، وقلة الأثمار والخيرات ، والقحط . أما عمومه في كل الأمم والقرى وجريانه كسُنّة إلهية فقوله تعالى (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) (31) ، أي إن الأمم التي كتب عليها الهلاك قد لا تذوق من العذاب الشديد ما تذوقه الأمة المستخلفة، وهذا يعني إن العذاب هو رحمة من الله لهذه الأمة المعذبة لما يريده الله سبحانه لها من الرجوع عن المعاصي والظلم ، بتعذيبها دنيوياً ، وهو مهما بلغت شدّته ففي الحقيقة لا يمثل شيء يذكر أمام عذاب يوم القيامة ، وأما الأمم التي كتب عليها الهلاك فقد يمكر الله بهم ويُملي لهم ويذرهم في طغيانهم يعمهون، حتى يأخذهم بغتة ولا تتوفر لهم أي من أسباب التفكير بالتوبة ، وهذا ما نلاحظه جاري في العالم اليوم ، حيث إن أشّد الأمم استكباراً وعتوّاً ، أغرقها في نِعَم الله ، حتى إنهم يحسبون أنفسهم ( أبناء الله وأحباؤه )، وقد كان العذاب الإلهي غالباً ما يكون على أشكال، منها المرض الوبائي، أو القحط والجوع، أو الحروب والقتل وتسليط الطواغيت والجبابرة، أو أن يكتب عليهم الذلّة والاستكانة والمسكنة ،او الكوارث الطبيعية، وعادةً لا يرتفع هذا العذاب إلاّ مع الرجوع إلى الإيمان كقوله تعالى ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) (32) وقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (33).
أو يرتفع العذاب بدعاء الرسول أو الأمام واستغفاره لقومه وطلب الرحمة لهم . وينقسم هذا العذاب إلى قسمين كما يبدو من آيات القرآن الكريم .
* العذاب الواقع نتيجة الأعراض والمعصية ، وهو ما كنا نتحدث عنه فيما سبق ومن أمثلة ذلك ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم وينصركم عليهم ) (34) ، وقوله تعالى ( إلاّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليما و يستبدل قوما غيركم ولا تضروهُ شيئا) (35) . ومن ألوانه حسر البركات عنهم ، و اذاقتهم قسوة العيش، ورفع الرحمة من قلوب بعضهم تجاه بعض ، وأمثالها.
* العذاب الواقع نتيجة الاستكبار و العتوّ ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا* فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا(9)) (36). وهو عذاب خطير ينم عن سخط الله وينذر بوقوع أمر عظيم ، تستوجب الأمة معه الهلاك لولا وجود النبي أو الأمام فيهم واعتذارهم عنهم واستغفاره لهم ، بل إنذار بالهلاك الفوري ، بسبب عتوّ الأمة– وذلك عندما سألت بني إسرائيل رؤية الله جهرةً ، تعالى الله عن ذلك – (وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ)(37) ، وهو يعني إن هذا الذنب العظيم كان يستوجب الإهلاك ، وقد أهلكهم الله سبحانه وأماتهم ولكن رحمة منه بعثهم من الموت مرةً أخرى ليعلموا عظيم جرمهم الذي أجرموا .
وحذّر الله سبحانه هذه الأمة من مثل هذه الكبائر والجرم العظيم فقال تعالى ( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ) (38) تحذيراً لهم وإنذاراً قبل وقوع الجرم .
وقد وقع مثل هذا الأمر في زمن أمير المؤمنين إذ سأله أحد الضالين سؤالاً مستكبراً في نفسه فقال : يا أمير المؤمنين صف لي ربك كأنك تراه عياناً ) فيروى أنه عليه السلام امتقع لونه واضطرب اضطراباً شديداً . خشية من وقوع نازلة كبرى بالأمة نتيجة هذا السؤال فدعا إلى صلاة جامعة وألقى خطبته الجليلة المهيبة المسماة ( خطبة الأشباح ) فكان يعظّهم آلاء الله ويمجّد كبريائه وينزّهه عن أن تدركه العقول ، فأبدع عليه السلام في القول حتى كأنه والله ليس بشراً ينطق بلسان ، بل روح القدس هو الناطق بلسانه ، فكان حقاً على الله تعالى أن يتقّبل اعتذاره عن الأمة، واستغفاره لها وطلب الرحمة لها إكراماً لمقامه فيها . إنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة . وأما في حال عدم حصول شيء من هذا، أي لا رجوع عما هم فيه من المعاصي ، ولا دعاء نبي أو إمام منصوب من الله ، فيقع العذاب إلى حدّه الأقصى ، وهو عذاب الاستئصال وقطع الدابر,
وقد توعد الله سبحانه بالعذاب الذي هو عذاب الاستئصال بقوله تعالى (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) (39) ، أي إن العذاب الذي يستعجلون به استهزاءا وتكذيبا به فانه آتيهم في اجله الموعود ، فإنهم يرون أن اجله بعيد ، ولكن هذا الأجل لو طال ألف سنة ، فان هذه الألف سنة هي عند الله كيوم واحد مما عندكم ، فليس حريا بهم أن يستعجلوا يوم عذابهم ، ولكن برحمة من الله فهو مؤجل إلى اجله الموعود ، الذي هو اليوم الموعود في قوله تعالى (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ) وبعده الخروج ويوم الفتح .

سنّة الآيـــات :
تناولت المباحث والأطروحات بشكل موسّع عند المتأخرين خاصة ، علامات الظهور القريبة التي تسبق الظهور ببضعة أشهر وبعضها أسابيع أو أيام ، وحاول الجميع تفسيرها تفسيراً واقعياً على إنها رمزية ، واسقطوا الكثير منها على إنها منافية للعقل والمنطق، ولذلك عدّوها موضوعة، ولا نريد أن نناقش أي من آراء الباحثين . ليس تصغيراً لشأنها ، ولكنها تتقاطع مع النص القرآني و مع النص الروائي و مع الأحاديث النبوية الشريفة بشكل واضح لا لبس فيه ، فهي آراء شخصية لا أكثر في قراءة النصوص .
قال سبحانه وتعالى (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلاّ أن كذّب بها الأوّلون) (40) ، والمتبادر إلى ذهن الغافل عن التفكّر في كتاب الله يفهم ظاهر القول، على أنه لا جدوى من إرسال وإنزال الآيات مادام الأولون قد كذّبوا بها، وسيستعمل الله سبحانه أسلوب آخر غير أسلوب الآيات .
إلاّ إن سلوكنا سبيل البحث وفق السنن الإلهية في القرآن يوصلنا إلى نتيجة خطيرة جداً هي غير ما استنبطه الآخرون، وهو إن إرسال الآيات مع التكذيب بها يعني هلاك الأمة ومجيء أجلها. وان هذه الآيات التي طالما سألوا نزولها، كما ورد في عدة سور قرآنية قولهم (} وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (41)، فان هذه الآيات التي يطلبونها سينزل الله إليهم من أصنافها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولكن ذلك في وقته الذي ضرب الله سبحانه له أجلا معلوم ، و سيريهم من الآيات ما لا تتخيله عقولهم الصغيرة ، ولكن نزولها ليس فيه خير لهم ، بل هو شرٌّ مستطر ، فعندها استئصالهم بالعذاب بهذه الآيات التي يطلبونها. إذ يقول تعالى ( سأريكم آياتي فلا تستعجلون * و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) (42) .
والآيات المنزلة على أصناف ودرجات
* من الآيات هي للتدليل على صدقية الرسول وأنه مرسل من ربه وهي معجزات وخوارق تكون حجّة للرسول على قومه وحجّة لله على خلقة كالآيات التسع لموسى عليه السلام إلى فرعون ، وآيات الأعجاز لكل نبي ورسول كآية انشقاق القمر للنبي الأميّ ( ص) (اقتربت الساعة وانشق القمر) ، وآية إنزال المائدة من السماء لعيسى (ع). وهي تدليل على القدرة الإلهية المستطيلة على كل شيء .
* آيات التخويف التي قال تعالى فيها ( وما نرسل بالآيات إلاّ تخويفاً) (43) ، وهذه الآيات ينزلها الله سبحانه على الأمة لردع نزوعها للمعصية والإعراض عن دعوة الرسول المرسل إليهم أو تكذيبه في بعض الأمر، ومن أمثلة هذه الآيات هو ( نتق الجبل فوق بني إسرائيل ) في قوله تعالى ( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنّه ظُلَّةٌ وظنّوا أنّه واقعٌ بهم ) (44)، وآية ( سأل سائلٌ بعذاب واقع ) حيث ضرب السائل بحجر صغير من رأسه وخرج من دبره وأحرق جسده من جوفه ، وهو القول الشائع ـ على إن الإمام الباقر (ع) يقول غير ذلك ، عن جابر قال : قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : " كيف تقرؤون هذه السورة ؟ قلت : وأية سورة ؟ قال : سورة " سأل سائل بعذاب واقع " فقال : ليس هو " سأل سائل بعذاب واقع " إنما هو سال سيل ، وهي نار تقع في ألثوية ، ثم تمضي إلى كناسة بني أسد ، ثم تمضي إلى ثقيف ، فلا تدع وترا لآل محمد إلا أحرقته " (45) . وهي سُنّة جارية في كل الأمم ومع كل الشرائع .
* آيات الإنذار بالهلاك :
ومن سُنّة الله في الخلق أن لا يهلك أمة ويستخلف أمة مكانها قبل أن ينزل إليهم آيات من آياته الكبرى تعبر عن سخطه على هذه الأمة وينذرهم بدنو أجلهم وغالباً ما تأتي هذه الآيات بغتة لا يتوفر معها سبيل للتوبة .
وفي علامات الظهور المبارك وأشراطه ما سيقع من هذه الآيات من أكبرها وأعظمها وأخطرها ، وردت في القرآن الكريم فيما أنذر الله سبحانه هذه الأمة بل ( ومن بلغ ) أي كل أهل الأرض ، إذ لا يوجد أحد في الأرض اليوم لم تبلغه الرسالة المحمدية والشريعة الإسلامية ونذكر منها قوله تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (46) وقوله تعالى ( وقل الحمد لله سيريكم آياته وتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ) (47).
وسنبحث في هذه النقطة السُنة الإلهية في بعض الأمم التي قص القرآن ما جرى عليها من سُنّنه في الخلق، والإشارات التي تربط بين هذه السُنن من نزول الآيات وجريان مثيلاتها في الأمة الإسلامية، وبالتالي النتيجة التي سيتمخض عنها الأمر من نزول الآيات .
قـوم نـوح :
لقد تحدثنا في الجزء الأول وفي موضوع(التغيرات الفلكية المرتقبة) وجود تناظر وتماثل فيما بين ما هو موعود أن يجري قبل الظهور وما جرى في زمن النبي نوح عليه السلام . وكان مجرد استنباط من القرآن الكريم ، إلاّ إننا وجدنا إضافة إلى ما قدمناه من أدلة في الجزء الثاني من رؤيا الكاهن فيلمون في استدارة الفلك ، أدلة أخرى على ما نذهب إليه و نعتقد ، منها في الإنجيل وسنقدمها في موضوع ابن الإنسان في الجزء الرابع.
وهو يؤكد استنتاجاتنا بعودة سرعة دوران الفلك إلى ما قبل الطوفان وعودة الكواكب إلى موقعها آنذاك ، وزوال المؤثرات الناتجة عن ذلك على الكائن الحي، من سرعة النمو وسرعة الهرم والشيخوخة وقصر عمر المخلوقات عموماً، بسبب العلاقة الطردية المعروفة بين السرعة والزمن،ضمن القانون الرياضي المعروف .
إن هذه العملية تفتح لنا آفاق واسعة عن معرفة الكون والخلق، والسماوات السبع و الارضين السبع ، وكيف أهبط آدم إلى الأرض، وأين سيكون بعدها، وكيف التقى رسول الله صلى الله عليه وآله بالأنبياء في السماوات المتعاقبة، وليس في سماء واحدة ، وما معنى رفع الله المسيح إليه وأين رفعه ولماذا ؟ وهو موضوع متعلق بموضوع كتابنا بشكل حاسم نرجو التوفيق للعودة إليه لاحقاً إن شاء الله .
والسؤال ، هل ورد في المأثور ما يثير إلى جريان هذه السُنّة في أمة الإسلام ؟
أن حديث السفينة فيه من العمق والإشارة إلى هذا الأمر ما لا يخفى على من يبحث الموضوع ( موضوع الظهور ) في ضوء السنن الإلهية ، قال ( ص ) ( مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى ) (48) .
ونرى أن هذا التشبيه ليس لضرب المثل بل هو حقيقة لما سيجري في هذه الأمة من سنة الله فيما جرى مع الأمم السابقة وتشبيه أهل بيته بسفينة نوح هو جريان سنة الله في قوم نوح في هذه الأمة عند ( استدارة الفلك ) ، وسنأتي بشكل تدريجي إلى الآيات الصريحة الدالة على ذلك بشكل قاطع .
وكان سبب نزول الآيات في قوم نوح عليه السلام هو دعاؤه عليهم ( ربي لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا ، إنك أن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفّارا ) (49)، فنزلت آية الفلك المشحون (وآية لهم انّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ) (50)، وسبب عدم نزول الهلاك في هذه الأمة هو الدعاء المستمر لأهل بيت العصمة لأمتهم بالرحمة ، ابتداءً من الرسول الأكرم وانتهاءً بالإمام القائم المهدي ( ع )
وجاء في الرسالة التي أرسلها الأمام المهدي (ع ) إلى الشيخ المفيد رضوان الله عليه قوله ( ع ) ( إنا غير مهملين لمراعاتكم ، ولا ناسين لذكركم ، ولولا ذلك لنزل بكم اللؤاء ، واصطلمكم الأعداء ، فاتقوا الله جل جلالة ، وظاهرونا على إنتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم ، يهلك فيها من حمّ أجله ويحمى عنها من أدرك أمله ، وهي إمارة لأزوف حركتنا ومبائتكم لأمرنا ونهينا ، والله متم نوره ولو كره المشركون ) (51) .
فولا دعاء الأمام الحجّة (ع) لنزل بالأمّة اللؤاء واصطلمها الأعداء، ولكن مع الأسف إن هذه الأمة التي أرسل الله لها رسوله (ص) الذي قال فيه تعالى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (52) ، فكان صلى الله عليه و آله ، هو و أهل بيته أهل بيت الرحمة ، وكانوا على خلق إبراهيم (ع) من دون الأنبياء ، لا يدعون لامتهم إلا بالرحمة و الهدى ، للأسف يبين من القرآن الكريم أنهم سيضطرون الإمام المهدي (ع) اضطرارا ليدعو عليهم ، بعد أن يرى الظلم لشيعته لا يطاق و القتل و سفك الدماء فيهم من أصحاب الأخدود ، ليس له نظير ، وتتكالب عليه وعلى أهل بيته و شيعته ، كل المفسدين في الأرض ، عند ذلك يدعو عليه السلام ، كما جاء في قوله تعالى ( أم من يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض ) (53)، و جاء في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام أن المقصود بهذه الآية الكريمة هو الإمام المهدي (ع) ، وفي الأدعية المأثورة عنهم (ع) انه هو المضطر الذي يجاب إذا دعا .
وجاء في الإرشاد للشيخ المفيد، حديث آخر يدلل على جريان سُنّة الله في قوم نوح في هذه الأمة عند ( استدارة الفلك ) قال عليه السلام ( فإذا آن قيامه مطر الناس جمادي الآخرة وعشرة أيام من رجب مطراً لم ير الخلائق مثله فينبت الله به لحوم المؤمنين وأبدانهم في قبورهم فكأني أنظر إليهم مقبلين من قبل جهينة ينقضون شعورهم من التراب ) (54)
وهذا المطر الذي لم تر الخلائق مثله هو بسبب الاضطرابات المناخية التي تحدثنا عنها في الجزء الثاني قبل إكمال وضع المجموعة الشمسية في مداراتها الجديدة ، وسنلاحظ عند تناول السور القرآنية المتعلقة بالأمر الإلهي ، كيف وصفت وقوع ذلك ، والتي يمكن فهمها على أنها زلازل بحرية ذات مدّ عالي من الموج العاصف، تختطف الناس و المدن وتلقيهم في اليم ، أو أعاصير مدمرة تحمل معها مياه البحار و الأمطار ، و منها ماء ينزل من السماء ، يسمى "ماء الحياة " هو الذي ينبت الله به لحوم المؤمنين ، وهو أشبه بماء الحيوان الذي وضع فتى موسى (ع) فيه الحوت ، " فاخذ طريقه في البحر عجبا " .

- قـوم صالـح ( ع ) :
ومن السُنّة الإلهية التي جرت في الأمم السابقة وستجري في الأمة هي الآيات التي أنزلها الله سبحناه في قوم صالح ( ع ) وهم ثمود وكبريات الآيات التي نزلت في ثمود هي ( الناقة ) ، و ( الريح المصفّرة ) قال تعالى ( ويا قومي هذه ناقة الله لكم آية ، فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ) (55) .
ومن الإشارات التي وردت عن أهل بيت العصمة عن ترابط السُنّة الإلهية في قوم صالح والأمة المسلمة – إشارتين :
الأولى : عن سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام ، فحين اغتصبوا الأرض ( فدك ) ومنعوها من حقها وانقلبوا في سقيفتهم على أمير المؤمنين ( ع ) كان مما قالته :
عن أبي عبد الله عليه السلام عن سلمان الفارسي ، أنه لما استخرج أمير المؤمنين عليه السلام خرجت فاطمة عليها السلام حتى انتهت إلى القبر فقالت : ( خلوا عن ابن عمي ، فوالذي بعث محمدا صلى الله عليه وآله بالحق لئن لم تخلوا عنه لأنشرن شعري ، ولأضعن قميص رسول الله صلى الله عليه وآله على رأسي ، ولأصرخن إلى الله ، فما ناقة صالح بأكرم على الله من ولدي ؟ ! قال سلمان : فرأيت والله أساس حيطان المسجد تقطعت من أسفلها حتى لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها نفذ ، فدنوت منها فقلت : يا سيدتي ومولاتي ، إن الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمة فلا تكوني نقمة . فرجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها فدخلت في خياشيمنا .) (56).
أما الإشارة الثانية : فهي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال ( … فيخرج أشقاها فيخضب هذه من هذه ) (57)، مشيراً إلى لحيته الشريفة وجمجمته المقدسة وقوله عليه السلام ( أشقاها ) إشارة إلى ارتباط ما يجري في هذه الأمة وقوم صالح في سورة (الشمس ) .
قال تعالى ( والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها ، حتى قوله تعالى – كذّبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها ، فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ، فكذبوه فعقروها ، فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسوّاها ولا يخاف عُقباها ) (58).
وقوله تعالى " والشمس وضحاها" – قال رسول الله ( ص) : ( الصيحة في النصف من رمضان ، يوم الجمعة ضحى ) .
وقال تعالى – والقمر إذا تلاها ، قال أئمة أهل البيت عليهم السلام آيتان قبل ظهور القائم
( ع ) آية في الشمس وآية في القمر وقوله تعالى ( إذ انبعثت أشقاها ) ، قال أمير المؤمنين عليه السلام ( فيخرج أشقاها ، فيخضّب هذه من هذه ) .
وسيمر بنا معان أخرى لهذه السورة المباركة ، يظهر منها أن ( أشقاها ) ليس رجل واحد ، بل هم من كل طائفة أشقاها ، ومن ( الشيعة ) أشقاها وهو الذي تقع عليهم الصيحة في الزوراء ، هو قاتل ( النفس الزكية في سبعين في ظهر الكوفة).
والآية الأخرى كما يبدو لنا – والله أعلم – هو مشابهة خروج دابة الأرض ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) (59)التي يبدو لنا إن هذه الآية مشتركة ما بين علامات الظهور، و اشراط يوم القيامة هي شبيهة بناقة الله، فإنها دابة تتكلم وتختم على جباه الناس هذا مؤمن وهذا كافر و الأحاديث قاطعة بان تأويلها هو الإمام علي (ع) ، عند الظهور، ويبدو من وصف آخر للإمام علي (ع) حيث قال ( إنها دابة لها شعر و وبر) ، هي دابة أخرى من أشراط يوم القيامة، والله العالم .
إننا في زمن نزول الآيات التي تسبق الهلاك ثم الاستخلاف، وانقطاع الآيات وتأجيل نزولها لا يعني عدم نزولها إلاّ عند الغافلين عن آيات الله ونذره، وكذلك كل آية أخرى جاءت في القرآن الكريم أو أحاديث النبي الأكرم وأئمة أهل البيت صلوات الله عليهم فهي واقعة كما قالوا، ولا تتعبوا أنفسكم بالبحث عن تأويلات وتفسيرات ، ويجوز ولا يجوز وقوانين عن المعجزات ، وحدّث الناس على قدر عقولهم !!!
فإنكم سترون كل ما رأته الأمم، بعد أن لم تنفع كل النذر والوسائل الأخرى والأساليب التي تسبق زمن نزول الآيات .
قال تعالى …… (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ) (60) .
قال أئمة أهل البيت عليهم السلام ( الصيحة في النصف من رمضان )
والصيحة سُنّة إلهية في الأمم الظالمة وهي تعني الهلاك ، وبلا أي حاجة لتأويلات وتفسيرات .
أما الريح الصفراء ثم حمراء ثم سوداء فقد شاهدتموها جميعكم في محرم 1424 ، وستشاهدون الريح المصفرة في زمن السفياني وهو قوله تعالى ( ولئن أرسلنا ريح فرأوه مصفرا لضلوا من بعده يكفرون ) (61)، وانتظروا إني معكم من المنتظرين .

- قوم لوط ( ع ) :
قال تعالى ( قالوا يا لوط إنّا رُسُل ربك لن يصلوا إليك فأسِر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلاّ بامرأتك أنه مصيبها ما أصابهم ، أن موعدهم الصبح ، أليس الصُبح بقريب ) (62).
والسبب إن لوطاً عليه السلام استغاث من عدوان وظلم وفجور قومه وكفرهم و أرادوا ارتكاب الفواحش والمحارم مع ضيفه من الرسل .
قال أمير المؤمنين عليه السلام في علامات الظهور ( يفتض في كل ليلة جمعة في الزوراء سبعون ألف فرج حرام ) (63) . وأوعز السبب في ذلك إلى الأساس الذي أدى الى هذه الحال من ارتكاب الفواحش ، قال عليه السلام (لولا أن عُمَر نهى عن زواج المتعة ما زنى إلا شقي) .
ثم قال تعالى (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ * ) (64).
وقال أئمة أهل البيت عليهم السلام في علامات الظهور ( … وعقد الجسر مما يلي الكرخ بمدينة بغداد ، وارتفاع ريح سوداء بها في أول النهار ، وزلزلة حتى ينخسف كثير منها ، وخوف يشمل أهل العراق وبغداد ، وموت ذريع فيه ، ونقص في الأموال والأنفس والثمرات ) (65).
وقالوا عليهم السلام ( قبل قيام القائم خسف وقذف ونار من جهة المشرق ) .
إن قوله تعالى ( وما هي من الظالمين ببعيد ) (66)، ليس إلا إخبار عن غيب يقع في المستقبل وليس تهديد . وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة من بعده فان الأغلب منه هو في آيات القرآن الكريم، كل ما في الأمر إنهم وحدهم يعلمون تأويل كل آية ومصداقها ووقت وقوعها، ولذلك نجد إن ما يُخبرون به هو مماثل لما في آيات الكتاب الكريم، إلا أننا نجهل الترابط بينها .
وسُنّة الله في قوم لوط وما أصابهم من الهلاك بالحجارة المسومة عند ربك ، واقع وجاري في هذه الأمة قبل الظهور ، في قوله تعالى( وما هي من الظالمين ببعيد )


- قـوم شعـيب ( ع ) :
قال تعالى عن لسان النبي شعيب عليه السلام ( سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ، وارتقبوا إني معكم رقيب ) (67) .
وقال تعالى مخاطباً أمة النبي الأمي ( ص ) ( فأرتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ) (68)، ثم خاطب النبي ( ص ) بقوله تعالى ( فأرتقب أنهم مرتقبون ) (69).
والترقب هذا عند النبييّن في قومهما وما سيحل بهما هو نزول الآيات الكبرى ، ( سُنة الله في الذين خَلَوا من قبل ولن تجد لسُنّة الله تبديلا ) (70).
وبعد أن لم تنفع كل النذر جاء وقت نزول الآيات
قال تعالى ( ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا برحمةٍ منّا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) (71).
ثم قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ* وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ* وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) (72).
فهذه هي الصيحة التي يتحدث عنها رسول الله والأئمة من بعده صلوات الله عليهم ، إنها سُنّة الله في الأمم العاصية وهي جارية في هذه الأمة في قوله تعالى (وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) (73).
وقد تحدثنا في الجزأين الأول والثاني عن رؤيتنا في هذا الموضوع بما يكفي .



- قــوم موســى ( ع ) :
وأما ما جرى من بني إسرائيل وسُنّة الله فيهم أولى القرآن الكريم لها أهمية خاصة في الأعم الأغلب من سوره المباركة وبالطبع فإن هذا التفصيل لكل ما فعلت ( بني إسرائيل ) وكل أمر دقيق منهم ليس أمراً اعتباطياً أو صدفة أو لأنها الديانة التي بقيت ملازمة ، وإنما ذلك ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله بأن كل ما فعلته بني إسرائيل فإن المسلمين سيفعلونه أثراً بأثر وطبق عن طبق ( لتركبن طبقاً عن طبق ) (74) ولكن مع ذلك فأن نزول الآيات من الصنف الثالث التي نتحدث عنها لم تنزل في بني إسرائيل ، رغم نزول آيتين من ذلك وهي آية دك الجبل عندما أرغموا نبيهم على أن يسأل الرؤيا ( ربي ارني أنظر إليك ) ولكن هذا السؤال ونزول الآية مع وجود الحجّة أو الرسول بينهم لا يكون في الحقيقة من الصنف الثالث من الآيات ، وهي الإنذار النهائي قبل الهلاك (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ اِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ) (75)، ونظر الله سبحانه إلى السؤال على إنه ينّم عن الجهل وليس الاستكبار، ولذلك بقيّ ضمن الصنفين الأول والثاني ولم يتسبب بوقوع الهلاك ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكّاً وخرّ موسى صَعِقاً ) .
أي أن الآية نزلت للتوعية والتربية لكي يفهموا حقيقة استحالة رؤية المخلوق للخالق ، والعبد للإله ، فإن الإله لا يراه إلاّ إله ، ولما لم يكن إلاّ إله واحد فإن رويته مستحيلة ، فجاء نزول أو إرسال هذه الآية للبيان والمثل – كما لو إنك تصنع جهاز كهربائي مصمم ليعمل بتيار كهربائي بقدرة مائتين وعشرين فولت، وتعطيه طاقة كهربائية بقدرة مليون فولت ، فلابد له من أن ينفجر ولا يتحمل شيء من هذه القدرة ، وهكذا استحالة رؤية المخلوق للخالق، فإن الجبل نفسه دُكَّ ونُسِف وتناثر غُباراً عند التجلّي ، علماً أنه روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بأن الذي تجلّى للجبل هو أحد الملائكة الكروبيين، ومع ذلك لم يحتمل الجبل رؤيته فتناثر وطار في الهواء من موقعه واستقرّت في جهات الأرض و قيل هي جبال أُحد ، والتين ، والزيتون ، وآخر في القدس ، وكان مكان الجبل أصلاً حين السؤال في الكوفة ، ومازالت آثاره باقية .
إلاّ إننا كما قلنا سابقاً وجدنا في السنين الإلهية في القرآن الكريم إن نزول هذه الآيات من الصنف الثالث تكون عادةً حين يكون الرسول أو الحجّة في الأرض مغلوب على أمره ولا يملك من ولاية الأمر شيء (فدعا ربّهُ إني مغلوبٌ فانتصر) (76).
ومن هنا يتبين لنا إن الآيات التي سيرسلها الله سبحانه وتعالى قبل الظهور وهي آيات كبرى وعجيبة ، كاستدارة الفلك ، والصيحة أو النداء باسم الإمام المهدي ( ع ) أو ظهور صورته في عين الشمس ، ونزول أو ظهور ( نجم الآيات ) وتقلبه في الآفاق ، وغيرها كثير ، إن هذه الآيات ليست مخصوصة بأمة دون أخرى ، بل هي لجميع أمم الأرض .
وجاءت في سورة ( العنكبوت ) ما يدلل على ذلك حين كان السؤال مشتركاً بينهما والخطاب القرآني موجهاً إليهما سوية ، أي أهل الكتاب وأمة النبي صلى الله عليه وآله .
قال تعالى ( وكذلك أنزلنا إليك الكتاب ، فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به ، وما يجحد بآياتنا إلاّ الكافرون ) (77). وبيّن الله سبحانه بعدها نزول الكتاب من عنده، واحتج بعدم استطاعة النبي بالمجيء بمثل هذا الكتاب فضلاً عن إنه أميّ لا يكتب الكتب ، ثم بعد ذلك جاء على ذكر سؤالهم أو رغبتهم بنزول الآيات – أي الآيات المادية – قال تعالى (وقالوا لولا أنزل عليه آياتٌ من ربه ، قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين) (78)، وأمرهم أن يكتفوا بآية نزول القرآن فهي كافية للإيمان ، وجاء في آية أخرى يبيّن فيها سبحانه وتعالى سبب عدم نزول الآيات التي يرغبون بمشاهدتها في قوله تعالى (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) (79).
ولهذا فأن نزول الآيات مؤجّل إلى وقته المعلوم حيث أن أجل الأمة لم يأتي بعد (لكل أمةٍ أجل ، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعةً ولا يستأخرون) (80) .
أن علامات ظهور الإمام القائم المهدي (ع) ، كما وصفها القرآن الكريم بقوله تعالى :
( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ) (81)
، فليس إلاّ جزء ضئيل جداً من علامات الظهور يمكن أن ننظر إليها على إنها علامات بالمفهوم السائد والدارج لمعنى العلامة، حيث أن المفهوم الغالب عليها هو إنها دلالات على قرب وقت الظهور أو وقوعه ، بينما حقيقة الأمر مختلف تماماً كما سترى بأذن الله .
إلاّ أنه ضمن الحديث عن سُنّة الله في نزول الآيات في الأمم لا بأس بأن نمر ببعض الآيات من الصنفين الأول والثاني التي نزلت في بني إسرائيل .
أ ـ آية إغراق فرعون وجنوده في اليم .
قال تعالى ( ولقد جاء آل فرعون النذر ، كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ) (82).
وعن نفس الآية قال تعالى في فرعون ( اليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خَلْفَكَ آية ) (83) فقد كان فرعون مثقل بالدروع و الحديد و عدة الحرب ، وكان لزاما أن يغطس ولا يطفو بدون آية من الله .
إن هذه الآيات وإن لم تكن لقمع وردع بني إسرائيل بل جاءت لنصرهم، إلاّ أنها درس بليغ ليعلموا مصير معصية الله والاستكبار على آيات الله ، ولكنهم ما أن عبروا نهر النيل وبلغوا الأمان بعد غرق فرعون وجنوده حتى اتخذوا العجل إلهاً وانقلبوا على نبيهم.
وكم جرى في هذه الأمة من النصر المبين وإهلاك العدو ليس بالقدرات القتالية عدداً أو عدّة امتلكتها الأمة ، بل بنصر الله وتأييده لرسوله قال تعالى ( ولقد نصركم ببدر وانتم أذِلّة ) (84) ثم قال تعالى( لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا) (85) .
وهي آيات مماثلة لإهلاك قوم فرعون كان ينبغي أن تكون درساً بليغاً للتمسك بأمر الرسول ، والحذر من الانقلاب عليه فتجري فيهم السُنّة الإلهية . وخاطبهم تعالى بقوله (قد خلت من قبلكم سُنَنْ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) (86) .
إلا أنهم فعلوا ما فعلته بنو إسرائيل ، وفعلوا ما حذّرهم الله أن يفعلوه فقد جاء في خطبة سيدة نساء العالمين عليها السلام فقالت :
( سرعان ما أحدثتم وعجلان ما أتيتم ، الآن مات رسول الله صلى الله عليه وآله أمتُّم دينه – إلى أن قالت ( ع ) : وتلك نازلة أعْلنَ بها كتاب الله قبل موته ، وأنبأكم بها قبل وفاته فقال " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ " ) (87) ".
ويتبين من قول السيدة الزهراء عليها السلام إنّ ما ينظر إليه الأعم الأغلب من المسلمين على أنه تنبيه وتحذير . إن هو في حقيقة الأمر إلاّ إخبار عن غيب سيقع في المستقبل كما استدللنا على ذلك في السُنن السابقة للأمم الماضية كقوله تعالى (وما هي من الظالمين ببعيد) .
ب. التعصّب للعجل : ومن الآيات التي أنزلت على بني إسرائيل وسنتّها جارية في هذه الأمة هي إقبالهم على العجل وتعصّبهم له قال تعالى ( وأشرِبوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) (88) فوجدوا أفئدتهم تهفوا له ونفوسهم تميل إليه وهي من آيات الله فيهم عندما أراد أن يفتنهم بالعجل .
وكم في هذه الأمة من العجول ، بل ومن الحمير والكلاب ، التي أشربت في قلوب مسلمي هذه الأمة الذين انقلبوا على أعقابهم ، فتعصبوا لهم وأقبلوا عليهم إقبال بني إسرائيل على عجل ألسامري ، وتلك سُنّة الله في الانقلابيين الذين يُضمرون غير ما يُبدون ، قال تعالى (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ * ) (89).
ج ـ المَسْخ : ومن سُنّة الله التي جرت في بني إسرائيل من الآيات وهي جارية في هذه الأمة هي المسخ ، قال تعالى (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (90).
فقد مسخ الله قوماً منهم على شكل قردة وخنازير ، وجاء في علل الشرائع في سؤال سألوه للإمام الصادق عليه السلام عن العلّة في تحريم (الميتة والدم ولحم الخنزير ) ، فجاء في جوابه عليه السلام ( … وأما لحم الخنزير فقد مسخ الله قوماً من بني إسرائيل مسخهم خنازير فحرّم لحم الخنزير إعظاماً لهذه الآية ) (91).
إلاّ إن هذا المسخ ليس الأخير في بني إسرائيل بل هناك مسخ آخر في بني إسرائيل وآخر في هذه الأمة ، وهو من سُنن الله في عصاة ذي العرش العظيم ، قال تعالى ( يا أيها الذين أُتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مُصدَّقاً لما مَعَكم من قبل أن نطمسَ وجوهاً فنردّها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنّا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا ) (92).
وقوله تعالى ( وكان أمر الله مفعولا ) هو إخبار عن حتمية وقوعه وليس إنذار كما يفهمه البعض ، وتواتر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وقوع هذا الأمر الذي هو المسخ، ضمن فترة نزول الآيات التي تسبق ظهور القائم من آل محمد صلوات الله عليهم ، وفي بعض الروايات أنها في الأربعين يوما الأخيرة قبل الظهور .
أما في هذه الأمة ، فقال تعالى ( ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيّاً ولا إلى أهلهم يرجعون ) (93)، وقال أئمة أهل البيت عليهم السلام هذه الآية في جيش السفياني الذي يخسف به البيداء فلا يبقى منهم أحد وهو قوله تعالى ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب ) (94)، فلا يبقى منهم إلاّ اثنان يمسخهم الله سبحانه ويرد وجوههم إلى أدبارهم ، فيكونا آيةً للسفياني وأتباعه يرسلها الله إليهم . وهما من جُهَينة ، و عندهما الخبر اليقين .والآيات الدالة على المسخ كثيرة ، سنتناول بعضها كما فسّره الإمام علي(ع) في خطبة المخزون، في موضوع الأمر الإلهي .
وعلى العموم فان الآيات الموعود ، هي : طلوع الشمس من مغربها وهي أول الآيات ثم خروج دابة الأرض بعدها بقليل، ثم الرجعة وبعث أصحاب القبور ، وخروج الدجال ، و خروج يأجوج و مأجوج و آيات عظيمة أخرى كثيرة .
و أورد السيوطي في الدر المنثور روايات عديدة و بطرق مختلفة عن ابن مسعود ، و ابن عمر ، وقتادة ، ومقاتل، و ابن أبي أوفى ،و أبو هريرة ، وحذيفة ، وابن عباس ، وغيرهم كثير، عنهم جميعا وكل حسب طريقته ( أول الآيات طلوع الشمس من مغربها ، فعند ذلك لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) (95) .
وعن الإمام علي (ع) في خطبة المخزون : ألا إن بعد ذلك الطامة الكبرى ، قيل ، وما ذلك يا أمير المؤمنين؟
قال : خروج الدابة عند الصفا بيدها خاتم سليمان .) (96) .
و اخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن انس قال، قال رسول الله (ص) : (صبيحة تطلع الشمس من مغربها يصير في هذه الأمة قردة و خنازير، و تطوى الصحف، وتجف الأقلام ، لا يزاد في حسنة ولا ينقص من سيئة ، ولا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا . ) (97).
و اخرج عبد بن حميد عن الحسن قال ، قال رسول الله (ص) : ( العظائم سبع مضت واحدة وهي الطوفان ، و بقيت فيكم ست ، طلوع الشمس من مغربها ، و الدخان و الدجال ، ودابة الأرض ، ويأجوج و مأجوج ، والصور .) (98) .
و اخرج ابن أبي شيبة و احمد و الحاكم وصححه عن أبي سعيد ألخدري قال ، قال رسول الله (ص) : ( و الذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان ، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله ، ويخبره فخذه بما احدث أهله من بعده . ) (99) .
( وفي تفسير على بن إبراهيم " قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم
لا يعلمون" قال : " لا يعلمون أن الآية إذا جاءت ولم يؤمنوا بها يهلكوا " .
وفى رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام في قوله : ( إن الله قادر على أن ينزل آية ) وسيريك في آخر الزمان آيات ، منها دابة الأرض والدجال ونزول عيسى بن مريم وطلوع الشمس من مغربها .) (100)
وهكذا تجري سُنن الله من غير تبديل ولا تحويل وهو العزيز الرحيم ونكتفي بهذا القدر من هذه السنن الجارية في الأمم للأخذ بمثلها بما في قوم هود عليه السلام والريح الصرصر العاتية التي أهلكتهم، ومثيلاتها في الأمم الأخرى، وفي هذه الأمة من وقوع الريح الحمراء في محرم 1424هـ والمحرمات القادمة وهي آيات الله في زوال ملك الجبابرة في هذه البلاد ومجيء إمارة (المؤمّرون ) الذين يسبقون الهلاك ثم مجيء الاستخلاف الموعود ،وهي غير الريح الصرصر التي ستأتي عند مجيء الأمر الإلهي قبل الظهور بقليل، كما توعّد الله سبحانه .
اما من النص القرآني ، وما انزل على جميع هذه الأمم من الآيات التي تسبق الهلاك ، أو يكون سببها الهلاك ، فهي الآيات القرآنية الكريمة التالية :
ففي قوم نوح (ع) قال تعالى : (فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ) (101)
وفي عاد قوم هود (ع) قال تعالى : (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * ....فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ) (102)
وفي ثمود قوم صالح (ع) قال تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * ....فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ) (103)
وفي قوم لوط (ع) قال تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ* .... وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ) (104)
وفي أصحاب الأيكة قوم شعيب (ع) قال تعالى : (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * .... فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ) (105)
وهكذا ترى أن نزول الآيات هي سنّة إلهية في جميع الأمم السابقة، ونزولها قبل ظهور الإمام المهدي (ع) هو استمرار لهذه السنة الإلهية .

سُنَّـة الإهلاك :
لقد قضى الله سبحانه وتعالى بهلاك قوم نوح ( ع ) ولم يذكر القرآن أو التاريخ الوضعي وجود قوم آخر بقي على قيد الحياة عدا نوح ( ع ) والذين آمنوا معه وركبوا معه السفينة ، ولا يوجد ما يدل على وجود غيرهم آنذاك ، وجاء في ملحمة كلكامش أنه عندما تم أمر الله وهلك الكافرون ظهر لأول مرة الطيف الشمسي المسمى ( قوس قزح ) وتقول الملحمة أن الله سبحانه أعطاه عهداً إلى نوح وذريته أن لا يهلكهم مرة أخرى بشكل قاطع وشامل وإنها المرة الأخيرة والوحيدة التي ترى فيها الأرض مثل هذا الهلاك الذي هلك فيه أهل الأرض عدا أصحاب السفينة .
وتحدث أمير المؤمنين عليه السلام بمثل هذا الأمر تماماً : في كنز العمال : { مسند علي رضي الله عنه } عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال : شهدت علي بن أبي طالب يخطب ، فقال في خطبته : سلوني فوالله لا تسألوني عن شئ يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به ، سلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا أنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل نزلت أم في جبل ، فقال إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ... إلى أن قال : فما المجرة ؟ فقال عليه السلام : شرج السماء ، ومنها فتحت أبواب السماء بماء منهمر زمن الغرق على قوم نوح ، قال : فما قوس قزح ؟ قال : لا تقل : قوس قزح ، فان قزح هو الشيطان ولكنه القوس ، وهي علامة كانت بين نوح وبين ربه أمان من الغرق) (106)
فإنه نهى عن تسمية هذا القوس بـ ( قوس قزح ) قائلاً أن قزح من أسماء الشيطان فسمّاه ( قوس الله ) ، وظهر قوس الله بعد هلاك قوم نوح للمرة الأولى، لسبب نعتقد أنه يدعم فكرتنا حول ما قدمناه من ترابط استدارة الفلك التي ستكون قبل الظهور وما حدث خلال طوفان قوم نوح، ويبدو أن استدارة الفلك حدثت آنذاك جعلت مدارات الكواكب و مواقع الأفلاك وخاصة موقع الأرض من الشمس في مدار ظهر معه لأول مرة ظاهرة التحليل الضوئي وظهور ألوان الطيف الشمسي في الغيوم والسحاب .
وعلى أية حال فقد تم إهلاك قوم نوح بتكذيبهم لنبيهم وما وقع منهم من البغي والظلم واتهامه بالسحر والضلالة والجنون ، قال تعالى (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ) (107).
وجاءت بعدهم قوم هود حسب القصص القرآني، رغم وجود أمم وقرون بين ذلك، إلاّ أننا سنقتفي الأثر القرآني ، فما دام القرآن الكريم أهمل ما بين ذلك فهو ليس مهم في السنن الإلهية في الأمم . فكان هود (ع) يحذر قومه وينذرهم ان يحل بهم ما حل بالأمم السابقة لهم ، وينهى قومه من الشرك بالله ، فتحدّوه قائلين : (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ) (108).
حتى جاءهم الله بما وعدهم (هود) من سنته في الأمم وأهلكهم قال تعالى (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ) (109) .
فجاء بعدهم قوم ثمود وهم قوم النبي صالح (ع) فكفروا برسالته وعقروا ناقة الله وتحدّوه أن يأتيهم بالعذاب . (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) (110).
ثم جاء قوم لوط بفواحش وإتيانهم الذكور من دون النساء ، وأرادت قومه طرده من قريتهم . (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (111).
وحاولت أمة النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) أن يفعلوا به ما فعلوه بلوط من الطرد من أرضه قال تعالى (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) (112) وهو مصير الأمة التي تطرد نبيها، وهي سُنّة الله في الأمم فأنذرهم الله سبحانه بالهلاك لو تمّ لهم ذلك .
وهكذا أهلك الله سبحانه قوم لوط (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) (113).
ثم جاء أهل مدين ودورهم مع نبيهم شعيب ( ع ) (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) (114). فأهلكهم الله سبحانه بالرجفة وجرت سنّته فيهم بالهلاك (فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمْ الْخَاسِرِينَ ) (115).
أما قوم موسى عليه السلام فلم يأت أجلهم ولكن السنة الجارية فيهم هي اللعن حتى يأتي أجلهم قال تعالى ( وأتبعوا في هذه لعنةً ويوم القيامة ) . بعد هذا الاستعراض الذي قدّمه القرآن الكريم لسُنّة الله في الأمم العاصية بصورة السرد القصصي والوعظ والتذكير عاد مرة أخرى لا للتذكير به أو الوعظ بل جاء بالإنذار الشديد من إن سُنّة الله ليس لها تبديل ولا تحويل ، وعلى الأمم التي لم يأتي أجلها بعد ان تأخذ حذرها من سُنّة الله فيهم .
وحدّد الله سبحانه موعد وأجل لوقوع هذه السُنّة ، وهذا الموعد هو ( يوم يدعُ الداعي إلى شيءٍ نُكرُ ) (116)، والداعي يبين القرآن شكل دعوته في قوله تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ) وقال أئمة أهل البيت : هو القائم المهدي من آل محمد ( عج )،وزعم أعداء الله و رسوله : انه جبريل(ع) ، ولكن يوم القيامة لا يوجد داعي إلى الله ، فقد انتهت الدعوة ووضع الكتاب، وستجد كل نفس ما قدّمت و أخّرت.
فانظر كيف جاء الاستعراض لهذه السُنّة الإلهية، واللهجة الشديدة فيه من الإنذار، قال تعالى ( كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّبوا عبدنا وقالوا مجنون وأزدجر ) (117). وقالت قيادة هذه الأمة التي يتبّعها الأعم الأغلب من فرق الأمة ( رسول الله يهجر ) ثم قال فيهم تعالى (ولقد تركناها آيةً فهل من مدّكر،فكيف كان عذابي ونُكرُ ) (118) .
ثم جاء قوم عاد قوم النبي هود ( ع ) ( كذّبت عادً فكيف كان عذابي ونًكُر * إنّا أرسَلْنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحسٍ مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجازُ نخلٍ منقعر* فكيف كان عذابي ونُكُر ) (119) .
ثم جاء قوم ثمود والنبي ( صالح ) ( ع ) ( كذّبت ثمود بالنُذُر * فكيف كان عذابي ونُكُر * إنّا أرسلنا عليهم صيحةً واحدةً فكانوا كهشيم المحتضر ) (120).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله ( الصيحة في النصف من رمضان يوم الجمعة ضًحىً ).
ثم جاء قوم لوط ( ع ) ( كذّبت قوم لوطٍ بالنذر ، إنّا أرسلنا عليهم حاصباً إلاّ آل لوطٍ نجيناهم بسحر ) ثم قال تعالى ( ولقد صبّحهم بُكرةً عذاب مستقرّ ، فذوقوا عذابي ونذر) (121).
ثم جاء فرعون وقومه ( ولقد جاء آل فرعون النُذُر ، كذّبوا بآياتنا كلّها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ) (122). وبعد هذا التقديم بالوعيد بالسُنّة الإلهية في الأمم العاصية ، أخبر الله سبحانه ما هو واقع في هذه الأمة والأمم التي تعاصرها ( أ كفّاركم خيرٌ من أولائكم أم لكم براءةٌ في الزبر ) (123). فأخبر عما سيكون عليه الأمر وهو قوله تعالى( سيهزم الجمع ويولون الدُبُر )(124) ، ولكي لا يخلطوا بين هذا الموعد وموعد قيام الساعة أخبر بأن ذلك سيكون أمر هيّن قياساً إلى قيام الساعة قال تعالى ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمَرّ ) (125)، وسيبين لنا من حديث لامير المؤمنين (ع) من "الجفر" ، بان هذا سيكون في الملحمة في معركة (هرمجدون ) قبل الظهور، الذي هو الساعة .
عجباً لمن يقرؤون القرآن كما يقرؤون مذكرات الجنرال بوينديا في عزلته التي امتدت مائة عام كما يدّعى ( ماركيز ) (126).
من يصل إلى أسماعه كل هذا الإنذار والتقديم بالوعيد ثم لا يتجافى جنبه عن المضجع ؟ بل ينتهي من قراءة السورة القرآنية وينهض من محرابه ليتباحث مع السيد برايمر حول الدستور ومع ( قوات التحالف) حول قضية الأمن ، ومع الشركات حول الإعمار ، ومع الخزينة حول الدولار ، ومع المحافظ حول تعيين جماعة في بلاطه ، ومع الأحزاب حول الديمقراطية ، ومع القضاة حول القوانين الجديدة !! .
وعجبا لأصحاب الأخدود الذين يفجرون النار ذات الوقود من العبوات الناسفة و المتفجرات و السيارات المفخخة على المؤمنين ، ويقولون انه جهاد في سبيل الله ، بينما يقول تعالى ( وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد ) (127) البروج ، وذلك لتشيعهم لأهل البيت ، وعدم تشيعهم لأصحاب السقيفة .
ولكن لِمَ العجب وقد أخبر ربي تبارك وتعالى قائلاً عن لسان رسوله يوم القيامة (وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (128) ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين )



سُنّـة الاستخــلاف :
وقبل البحث في هذه السُنّة الإلهية الجارية في الأمم لابد من التعرض بشيء من التبسيط في قوله تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة أني جاعلُ في الأرض خليفة ، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، قال أني أعلم مالا تعلمون ) (129).
في الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بأن الله سبحانه خلق قبل آدم ( ع ) الذي نحن من ذريته ، خلق سبعة خلائق من صنف خلق آدم ، وهذه الخلائق السبع تمت خلق بعد خلق، وكلها قامت قيامتها كما جاء عن الإمام الصادق (ع)، وآثار هذه الخلائق وجدت في المتحجرات التي عثر عليها الآثاريون، وقاموا على أساسها بتقسيم مراحل نشوء الأرض أو الكون ومن ثم الخلق ، فقسموا هذا التاريخ إلى عصور منها العصر الجليدي والعصر الحجري وما إلى ذلك ، وعلى ضوءه قسموا مراحل نشوء الإنسان وتطوره إلى أطوار وموديلات شبيهة بمراحل تطور الأجهزة والمكائن والسيارات سنة عن سنة ولكل سنة موديل جديد ، وقالوا بوجود إنسان النياندرتال وكرومانيون وجاوة وغير ذلك من الموديلات حتى وصل التطور إلى صورة الإنسان الحالي والذي يعود أصله إلى موديل القرد ، وسبحان الله عما يصفون .
وأخطر ما في الأمر أن بعض الباحثين المسلمين من المعاصرين الذين نشأوا على الثقافة المادية واختلطت عليهم الأمور وهم يحاولون تصحيح( أخطاء الدين الإسلامي وجهل الأمة بهذا الدين) وانبروا من حيث لا يشعرون للتوفيق بين نظرية داروين في أصل الأنواع والأطروحات الدينية عامة والإسلامية خاصة.
وهكذا جعلوا داروين وأصحاب الفكر المادي المعاصر يحققون نصراً على يد هؤلاء الباحثين، وخاصة منهم شيعة إماميه تناولوا قضية الإمام المهدي ( ع )، حيث عرض لنا كتاب ونحن نكتب هذا الجزء الثالث يتناول هذا الموضوع، رغم أهميته وجودته إلاّ أنه ينطوي على كثير من الإفك والمغالطات ، التي يعود السبب فيها كما استنبطنا إلى تأثيرات الفكر المادي على نشأة جيل من المثقفين الإسلاميين ، لم يجدوا من يرشدهم إلى طريق الصواب بالأسلوب المنطقي الذي يقوم على الحجة بعيداً عن تبادل الشتائم . وعلى أية حال فنسأل الله التوفيق لبحث يقوم على الحقائق التي لا يمكن لمخلوق غير المعصوم أن يحيط بكل جوانبها وخفاياها وسنرد قريباً إن شاء الله .
بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( إن الله تبارك وتعالى كان ولا شئ فخلق خمسة من نور جلاله ، و لكل واحد منهم إسما من أسمائه المنزلة ، فهو الحميد وسمى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو الأعلى وسمي أمير المؤمنين عليا ، وله الأسماء الحسني فاشتق منها حسنا وحسينا ، وهو فاطر فاشتق لفاطمة من أسمائه اسما ، فلما خلقهم جعلهم في الميثاق فإنهم عن يمين العرش . وخلق الملائكة من نور فلما أن نظروا إليهم عظموا أمرهم وشأنهم ولقنوا التسبيح فذلك قوله : " وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون " (130) ، فلما خلق الله تعالى آدم صلوات الله وسلامه عليه نظر إليهم عن يمين العرش فقال : يا رب من هؤلاء ؟ قال : يا آدم هؤلاء صفوتي وخاصتي خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم إسما من أسمائي ، قال : يا رب فبحقك عليهم علمني أسماءهم ، قال : يا آدم فهم عندك أمانة ، سر من سري ، لا يطلع عليه غيرك إلا بإذني ، قال : نعم يا رب ، قال : يا آدم أعطني على ذلك العهد ، فأخذ عليه العهد ثم علمه أسماء هم ثم عرضهم على الملائكة ولم يكن علمهم بأسمائهم " فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ، قالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا . إنك أنت العليم الحكيم ، قال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم " علمت الملائكة أنه مستودع وأنه مفضل بالعلم ، وأمروا بالسجود إذ كانت سجدتهم لآدم تفضيلا له وعبادة لله إذ كان ذلك بحق له ، وأبى إبليس الفاسق عن أمر ربه فقال : " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ؟ قال : أنا خير منه " ، قال : فقد فضلته عليك حيث أمرت بالفضل للخمسة الذين لم أجعل لك عليهم سلطانا ولا من يتبعهم ، فذلك إستثناء اللعين قال : " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " وهم الشيعة . فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه )(131) .
وهكذا خلق الله سبحانه آدم ليس فرداً ينتهي أمره بحد محدود بآدم ـ كما هو شأن جبريل أو ميكائيل أو اسرافيل ( ع ) مثلا ـ بل جعل له خلفةً من ذريته يخلفونه، ويخلف بعضهم بعض، ويكونوا أمماً تخلف أمةٌ امة، يعبدون الله ويسبحون بحمده ويقدسون له حتى تأتي قيامتهم .
ولكن فشل آدم أمام ابتلاءه بعداوة إبليس اللعين له، ومن ثم قرار نفيه إلى الأرض ليقضي عقوبة محدودة، جراء فشله في الطاعة الكاملة، جعل هذه الخلفة متباينة في طاعتها وإيمانها ، فمنهم الصالحون ومنهم الفاسقون ومنهم المفسدون ومنهم ما بين ذلك ، ولكي يستقيم أمر آدم في الأرض وعده الله سبحانه أن لا يتركه مهمل في منفاه، بل يأتيه الهدى والبيان والإرشاد والتوجيه، وتأتيه تشريعات وقوانين تنظم حياتهم وعلاقاتهم فيما بينهم في المنفى من جهة، وتنظم علاقتهم بربهم من جهة أخرى ، وجعل الله سبحانه الولاية لآدم على ذريته، وأمر ذريته بطاعته، وجعل طاعته من طاعة الله سبحانه، حتى إذا جاء أجله جعل من ذريته خليفةً يخلفه في مقامه، ويقوم بدوره، ويتلقى الهداية والإرشاد والتشريع من الله سبحانه بدلاً عنه .
حتى إذا جاء أجله جعل الله سبحانه وتعالى خليفة آخر يخلفه في الأمر، وهكذا حتى تنقضي مدة عقوبة النفي المعلومة الأجل عند الله سبحانه .
إلاّ إنّ الأمر الذي حصل في الواقع هو إن الخليفة الذي يأتي بعد سابقه تآمروا عليه وأنكروا خلافته وظهر له منافسون في أمره، ثم كذّبوا بوصيه الذي سبقه، وظهرت أجيال نشأت على هذا التكذيب، وظهر الفساد وسفكت الدماء، ولم يلتزم بالأمر الأول إلاّ قلة قليلة، فأهلك الله سبحانه المفسدين وسافكي الدماء والعاصين والكافرين واستخلف مكانهم هذه القلة القليلة، وجعل منهم مستخلفاً عليهم يقوم بأمر الولاية عليهم ويتلقى من ربه ما كان يتلقاه الذي سبقه كما كان يتلقى آدم ( ع ) ذلك .
ثم تكاثرت هذه القلة القليلة وأصبحت أمة، وظهر المنافسون من جديد، ثم كذّبوا بأمر ولي الأمر عليهم وانقلبوا عليه وكفروا وظهر الفساد فيهم، إلاّ قلة قليلة تمسكت بالأمر الأول ، فأهلك الله سبحانه الكثرة المفسدة الكافرة واستخلف مكانهم القلة القليلة، وجعل منهم مستخلف عليهم يقوم بأمرهم ويتلقى من ربه ما كان يتلقاه سَلَفَهُ، وهكذا أصبحت سُنّة إلهية في ذرية آدم ( ع ) أن يُهلك الله سبحانه هذه الكثرة الفاسدة الكافرة، ويستخلف مكانهم القلة المؤمنة المستقيمة على الأمر الأول من الطاعة والإيمان ، وجرت السُنّة الإلهية فيهم أن يحسن الله سبحانه إليهم مزيداً من إحسانه ويفيض عليهم من بركاته، وينزل إليهم تشريعاً جديداً هو خير لهم مما سبقه مجازاة لهم على ثباتهم على الأمر الأول.
وسننطلق في ربوع القرآن الكريم وما قصّه من هذه الأمم وكيفية جريان هذه السُنّة الإلهية فيهم التي أصبحت سياسية قائمة على ثوابت غير قابلة للتغيير أو التبديل يسوس بها الله سبحانه الخلق حتى يوم القيامة وانقضاء المدة .
ففي البداية كان قرار إهباط آدم وزوجه وإبليس إلى هذه الأرض الأولى التي نسكنها لما فيها من مشقة الحياة وصعوبة العيش نتيجة ظروف خلقها ومكانها وموقعها من الكون ، ولكن دون إهمال ، قال تعالى ( قلنا اهبطوا منها جميعاً فأما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (132) .
فقد ضمن الله سبحانه لهم الأمان من الخوف ، والحزن من العاقبة، مقابل اتّباعهم للهدى الذي يأتيهم منه سبحانه ،ويتبين من آية في سورة الأعراف توضيح المقصود، قال تعالى(يا بني آدم إمّـا يأتينّكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ) (133) ، فان الهدى الذي وعدهم أن يأتيهم وآمرهم بإتباعه ، تأتي به رسلٌ منهم ، و اشترط العمل بالصلاح و التقوى في إتباعه ليأمنوا من الخوف ويسعدوا في العاقبة،
ويتبين مما قصه القرآن إن الذين اتّبعوا الهدى الذي أتاهم من الله سبحانه قلة قليلة وأعرضت الكثرة عن هذا الهدى .
وقد تجاوز القرآن عن قص كثير من أمور هؤلاء ، وأهتم خاصةً كبداية جديدة ونقطة انطلاق جديدة بقوم نوح ( ع ) وما جرى منهم وما جرى معهم . وسنقتفي أثر القرآن الكريم، ففي ما قصه ما يغني عن سواه لمعرفة السُنة الإلهية في الخلق وكيفية مماثلتها لما سبق، ولما سيأتي بعد ذلك .
وابتداءً خاطب القرآن الكريم هذه الأمة قائلاً (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (134) .
وقوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ) بعد قوله تعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي أن استخلاف هذه الأمة أو جعلهم خلائف ، جاء بعد إهلاك القرون السابقة ( لّما ظلموا ) ، أما أول هذه ( القرون من قبلكم ) التي قص القرآن سيرتها فهم قوم نوح ( ع )، قال (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ … - إلى الآية الأخرى ، قال تعالى (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) (135)
فقد تبين إن الله سبحانه أهلك القوم واستخلف القلة القليلة ( فأنجبناه والذين آمنوا معه في الفلك ) وقيل أن عددهم سبعين نفراً ، وقيل ثمانين ( قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول ومَنْ آمَنَ وما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قليل ) (136).
ثم تكاثر هذا القليل وأصبحوا أمة ونسيت كل ما جرى لأسلافهم وسبب إغراقهم، وأفسدوا في الأرض وكفروا بنعمة الله، فأرسل الله اليهم النبي هود (ع) فكان قوله لهم (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) (137)
وقوله تعالى (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) هو سُنّة الاستخلاف الجارية في الأمم فقد استخلف الله سبحانه قوم( عاد ) بعد قوم نوح، وجعل القائم بأمرهم والولي عليهم النبي هود (ع) يقوم مقام النبي نوح ( ع ) في قومه، يتلقى الهداية والإرشاد والتشريع من رب العالمين، وجادلوه في أسماء ما نزّل الله بها من سلطان ، أي أسماء لم يجعلهم الله سبحانه ( أولي الأمر ) ، ولكن دأب الأمم الضالّة أن تسقط الصفات على من تشاء وتهوى أنفسهم، وليس الذين أنزل الله بهم سلطان وتعيين ، فظهر الفساد والانحراف والكفر ، وجاء قرار الهلاك – سُنّة الله في الخلق – و لم يبق على الأمر الأول إلاّ قليل (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ) (138) .
ثم تكاثرت هذه القلّة وأصبحت أمة ونسيت ما جرى للأمم التي سبقتها ، وكذبت بالوعد والوعيد وكفرت بأنعم الله وظهر الفساد فبعث الله إليهم النبي صالح (ع ) يذكرهم ما نسوه ويدعوهم إلى ما كفروا به ويذّكرهم بسّنة الله في الخلق .
(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ) (139)، فقد استخلف الله سبحانه قومه بعد قوم عاد (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ) فدعاهم إلى الاستغفار والتوبة وطاعة الله وحده ، ولكنهم تمسكوا بما كان يعبد آباءهم وشكّوا في دعوته ورسالته . فجاء أمر الله وسُنّته في الخلق بإهلاك الكثرة المفسدة الكافرة واستخلاف القلة المؤمنة الباقية على الأمر الأول ، (فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه … وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) (140) .
ثم جاءت الرسالة ذات الشقين في عصر واحد وهي رسالة أبي الأنبياء إبراهيم(ع) وإلى جانبه النبي لوط عليه السلام ، وجرت السنة الإلهية في قوم لوط بعد أن استخلفهم الله سبحانه، ولكنهم كفروا بهذا الاستخلاف وأخذوا بما فعل أسلافهم، فدعاهم إلى الله وخوّفهم أيام الله وأنذرهم سُنّة الله ، فاستكبروا وأرادوا الكيد به فجاء أمر الله بسبب إتيانهم الفواحش :
(فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) (141).
وهكذا جرت فيهم سُنّة الله فأهلكهم واستخلف أهل مدين ونبينهم شعيب ( ع ) فطفّفوا الكيل والميزان وأفسدوا في الأرض ، وحذّرهم نبينهم سُنة الله في الظالمين والمفسدين والمجرمين فآمنت طائفة وكفرت أخرى ، وكان يدعوهم إلى الله ويزيدون استكباراً ونفوراً ( ويا قومي لا يجرمنّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح ، وما قوم لوط منكم ببعيد ) (142)، فلم يفقهوا ما يقول واستضعفوه وهدّدوه بالرجم إن لم ينته عن دعوته ، فجرت فيهم سُنّة الله في الأمم العاصية والمفسدة وجاء أمره غير المردود : ( ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمةٍ منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة ) (143).
فأهلكهم الله سبحانه واستخلف ذرية إبراهيم ( ع ) .
لقد تميز خليل الله إبراهيم ( ع ) عمن سبقه من الأنبياء والرسل بالانبراء متشفّعاً لذريته وقومه ومستغفراً عنهم وداعياً ربهم أن يتوب عليهم ويهديهم ويبعث فيهم رسولاً منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ، وكان أول موقف منه عليه السلام هو مجادلته عن لوط وقومه للرسل من الملائكة الذين جاءوا لتنفيذ أمر الله في قوم لوط ، وامتدح الله سبحانه هذه الصفة فيه فقال تعالى (إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب) (144) ، فكان يرجوا لقومه وذريته وللناس الرحمة من الله سبحانه ويرجوا لهم الاستقامة والصلاح ، فوعده الله سبحانه أن يفعل بالصالحين منهم ما سأل واستثنى الظالمين منهم، وأخبره بأن سُنّتهُ فيهم جارية من غير استثناء من الأمم .
( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (145).
فلم ينقطع إبراهيم ( ع ) عن الرجاء وعن الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه من اجل ذريته ، إلاّ أنه عليه السلام كان حازماً وذو عزم فريد مع أعداء الله ومجاهدتهم، فتبرأ من أبيه بعد إن تبيّن له إنه عدوّ لله سبحانه .
فاستخلف الله من ذريته بني إسرائيل بعد إهلاك فرعون وقومه وجنده. والحديث مع بني إسرائيل ومعاصيهم واستكبارهم وفسادهم له بداية وليس له نهاية ، ولكننا نتحدث الآن في موضوع سُنّة الاستخلاف وليس في تاريخ بني إسرائيل الذين لُعِنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم وخاتم النبيين صلوات الله عليهم ، ولكن الله سبحانه جعل لمهلكهم موعداً هو يوم الملحمة . إلا ان الأنبياء من بني إسرائيل من جعلهم الله خلفاء في الأرض ، ومنهم النبي داود (ع) ، قال تعالى :
(يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (146) .
ثم استخلف الله سبحانه من ذرية إبراهيم من ولده إسماعيل صفوة الله وسيد الكونين وسيّد ولد آدم النبي الأمي محمد صلوات الله عليه وآله ، وقومه ، وجعل من ذريته مستخلفين على أمته من بعده أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون .
ولكن الأمة وقع منها ما اخبر الله سبحانه في سابق وقت وفي علم غيب عندما كان القرآن يُنزّل على رسولها ( ص ) قال تعالى ( وما محمد إلاّ رسولُ قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) (147) ، وهذا كان إخبار عن غيب يقع في مستقبل الزمان ، أي بعد ( مات او قُتل ) فلما قبضه الله سبحانه إليه انقلبت الأمة وفسدت وسفكت الدماء وقتلت أئمتها الذين هم خير من أنبياء بني إسرائيل .
فهل توقفت السُنّة الإلهية عند هذا الحد إكراماً لعيون الانقلابيين؟ أم إن هذه السُنّة الإلهية التي ليس لها تحويل ولا تبديل كما قال تعالى جارية ؟
فلنستطلع ربوع القرآن الكريم ونرى . قال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) (148).
وفي هذه الآية الكريمة نبّه الله سبحانه إلى سُنّة الاستخلاف وإنها جارية ( يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ ) ، فإن مجرمي ومفسدي هذه الأمة ليس لهم براءةٌ في الزُبُر . وأشارت الآية الكريمة إلى وجود وعد بهذا الاستخلاف (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ ) .
وثم نزلت آية أخرى أكثر وضوحاً وصراحةً وتحديداً ، قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (149).



الوعـد الإلهـي :
أن ما مر علينا في الآيتين السابقة من الوعد في قوله تعالى (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ) ، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) ليس وعداً جديداً أو حديثاً وليست فكرة طارئة على إدارة الله لملكه وخلقه وسبحانه عما يظّن الجاهلين ، فلقد كان هذا الوعد الإلهي قائماً منذ إهباط آدم إلى الأرض، وكان ركناً من أركان كل رسالة وكل دين وكان عِلْماً أعْلَمَ الله سبحانه به كل الأنبياء والمرسلين وكل المستخلفين في الأرض .
ولكن أول بيان إلهي لهذا الوعد وصل إلينا في القرآن الكريم هو ما جاء على لسان العبد الصالح ( ذي القرنين ( ع ) ، فلقد أخبر بهذا الموعد عندما بنى الردم على يأجوج ومأجوج فقال عليه السلام ( فإذا جاء وعد ربي جعله دكّاء وكان وعد ربي حقّاً ) (150) ، واخبر به ذي القرنين ( ع ) بصيغة الخبر وليس الإنذار والتبشير، لأن هذا الوعد في حقيقة الأمر ينطوي على الاثنين معاً ، الإنذار بالهلاك للمفسدين من يأجوج ومأجوج وغيرهم من ذرية آدم (ع) ، وبشارة للمؤمنين والمستضعفين بتمليكهم الملك وتوريثهم الأرض واستخلافهم بدل المفسدين .
ومن المعلوم أن ذي القرنين ليس نبيا ولا رسولا ولم ينزل إليه صحف سماوية مما يدل على انه علم هذا الخبر ممن سبقه من الرسل و الأنبياء ، فخبر هذا الوعد اسبق منه بلا شك .
وجاء هذا الوعد كما بيّنه القرآن الكريم في ما أنزل إلى بني إسرائيل وما قُضيّ إليهم في كتابهم بأنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوّاً كبيراً ، قوله تعالى ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ) (151) .
أما على أمة النبي محمد صلى الله عليه وآله فقد جاء هذا الوعد مراراً وتكراراً وتساءلوا عنه مرات عدةّ ذكرها القرآن الكريم كما في قوله تعالى ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) (152) ، ثم قوله تعالى ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون * واقترب الوعد الحق ) (153).
ويتبين هنا بشكل لا لبس فيه أن الوعد الذي تحدث وأخبر به ذو القرنين هو نفس الوعد الموعود لهذه الأمة لاقترانه بفتح يأجوج ومأجوج وقوله تعالى ( واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ولينا قد كنّا في غفلةٍ من هذا بل كنّا ظالمين ) (154)، وشاخصة أبصار الذين كفروا ، لما سينزل الله سبحانه من الآيات أثناء مجيء هذا الوعد ، وعبّر القرآن الكريم عن شخوص أبصارهم بتعبير آخر وصورة أخرى في قوله تعالى ( إن نشأ ننزّل عليهم من السماء آية فظلّت أعناقهم خاضعين ) (155) .
وكل هذه الآيات تتحدث عن موضوع واحد ، وهو استخلاف قوم وقائد يدور حوله كل أمر هذا الوعد الإلهي .
ثم ذكر القرآن الكريم هذا الوعد وتساؤل الكافرين عنه مرة أخرى في سورة ( يس ) قال تعالى ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) (156) ، ثم بيّن لهم علامة مجيء هذا الوعد ودلالات قدومه فقال تعالى ( ما ينظرون إلاّ صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) (157) ، ثم مرة أخرى سورة النمل سالوا عن الوعد الإلهي نفسه ، قال تعالى (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون ) (158) .
ثمّ بدأت السور القرآنية و الآيات المتفرقة تتحدث بشكل مفصّل عن هذا الموضوع و اشراطه و علاماته بشكل لم يعد معه أي غموض ، ولكن المشكلة تكمن في فهمه . ولعلنا بحاجة إلى( أسلوب ) تفسيري جديد يجمع لنا أطراف الموضوع كـ ( قضية ) ، وهو ما سنحاوله في احد الأجزاء إن شاء الله ذلك .

عالمية الوعد ووعد العولمة :
يتبين لنا مما سبق إن هذا الوعد الإلهي قد وعده الله سبحانه وتعالى إلى جميع الأمم الماضية وورد في جميع الرسالات السماوية ولم يختص به القرآن الكريم، ولم تختص به أمة النبي محمد صلى الله عليه وآله، والإخبار الذي أخبر به ( ذو القرنين ( ع ) ) يدل بشكل قاطع انه علمه من الذين سبقوه لكونه ليس رسولا أو نبيا،و إن كل الذين جاءوا بعده قد أخبروا به أقوامهم ، ونزوله على بني إسرائيل هو استمرارية لورود خبر هذا الوعد على الأمم كافة .
ومن جهة أخرى فقد جاء هذا الوعد مرة بصيغة الإخبار ومرة بصيغة الإنذار ومرة بصيغة التبشير، فوقوعه غير مخصوص بأمة معينة ، بل بجميع أمم الأرض ، فلكل أمة ولكل قوم بل لكل جماعة صغيرة نصيبهم في هذا الوعد بما عملوا وبما يستحقّون، ثم أنه ثبت من خلال ما تقدم من البحث إن هذا الوعد له داعي لا عوج له وهو القطب الذي تدور حوله رحى هذا الوعد ، وثبت من خلال ما تقدم في الجزأين السابقين إن هذا الداعي هو الإمام القائم المهدي ( ع ) , فالسؤال المهم ، هو ما الذي سيحصل في وقوع هذا الوعد الذي هو ظهور الإمام القائم من آل محمد صلوات الله عليهم في ضوء ما تقدم من بحثنا في السنن الإلهية

الظهور وأبعاد علاماته :
أن أغلب أمم الأرض الآن تترقب هذا الوعد الإلهي وتترقب الظهور وتؤمن به وتختلف على شخص القائم به .. ولكن الذي يظهر لنا على أرض الواقع أن الجميع يجهلون حقيقة ما سيجري ، وكل التصورات التي لديهم حول الموضوع أنه انتصار الحق على الباطل بطريقة ثورة شاملة تسقط فيها الأنظمة والحكومات وتقوم مقامها حكومة عالمية عادلة تنتشر العدل والأمن والخير والبركات في الأرض وهذا التصور يجعل الكثير من المنافقين يعدّون عدّتهم من الآن لتقديم التهنئة والتبريكات لهذه الحكومة وتقديم الولاء لها ومحاولة التزلف لها لحجز مقاعدها في الحقائب الوزارية ، أو على الأقل شمولهم ببركات هذه الحكومة مادام خيرها عاماً وأمنها للجميع . ، ولكن بحثنا في السنن الإلهية تقول إن الذين سيشاهدون هذا الاستعراض هم جميع أهل الأرض ولكن الذين سيحضون بمشاهدة المشاهد الختامية ليسوا إلاّ قلة قليلة ، وأما الكثرة الغالبة فإنها إلى الهلاك المحتوم . وهذا ما قامت عليه السنن الإلهية في الاستخلاف كما تبين لكم في هذا الجزء مما جرى للأمم السالفة .
أن علامات الظهور في حقيقة الأمر – وخاصة القريبة منها – لا يجب النظر إليها إلاّ كما تشاهد من يحفر لك قبر ويسَعّر فيه النار وعقد نيّته على دفنك في هذا القبر المتقد، وهو قادر كل المقدرة على ذلك، وأنت مشغول بملاحظة فنّه العجيب في الحفر وتسعير النار، وربما تراودك فكرة التقاط صورة له لدهشتك من دقته وإبداعه وتفننه في عمله ، مشغول بكل ذلك عن التضرّع إليه والتوسل به ومحاولة استرضاءه وفهم الدوافع التي دفعته لفعل ذلك عسى أن تتمكن من إعطاءه ما يريد أو تطلب منه العفو عما بدر منك علّه يقبل اعتذارك ويصفح عنك ، وإني إذ استغفر ربي عن تشبيه فعله بعمل المخلوقين ، فإنه المثل الصادق لما سيجري .
أن لكل علامة من العلامات القريبة أبعادا لا يحاط بها ، فعلى سبيل المثال فإن لكل خطوة من خطوات استدارة الفلك التي تبدأ بنزول أو ظهور (نجم الآيات) إلى قلبه لقطبية القمر وإظهار وجهه الآخر وإخراجه من مداره إلى مدار آخر ، ثم إلى تسريع دوران الأرض سرعة مخيفة وقلب قطبيها المغناطيسيين – كما يبدو لنا – إلى طلوع الشمس من المغرب وإخراج الأرض من مدارها إلى مدار آخر ، إلى تباطؤ سرعتها ولبوثها على دوران بطيء جداً ، إلى ما يرافق ذلك من اضطرابات مناخية مرعبة ، أقول أن لهذه العلامة وحدها
أبعاد عسكرية : وقد تحدثنا عنها في الجزء الأول وما لها من تأثير على فقدان الأقمار الصناعية وقطع الاتصالات وفقدان السيطرة القيادية على الجيوش والأسلحة وغير ذلك كثير في هذا الباب – ولها أبعاد .
اقتصادية من حيث توفير ظروف بيئية ومناخية وطبيعية يتضاعف معها الإنتاج مرات عدة وتزول معها أسباب القحط من قسوة المناخ وقلة المياه والأمطار ( قل إن أصبح ماؤكم غوراً من يأتيكم بماء معين ) سورة الملك، وقد كثرت في السنوات الأخيرة الأحاديث عن حروب المستقبل، حيث تتوقع هذه الاتجاهات وقوع حروب للسيطرة على منابع المياه لشحتها، بينما هي علامة من علامات الظهور ، حيث يكون السنوات الثلاث قبل الظهور ـ حسب الروايات
في الاولى تحبس السماء ثلث المطر ، وفي السنة التي بعدها ثلثي المطر ، وفي السنة الاخيرة قبل الظهور ، لا تمطر السماء ابدا .
، ونحن الآن بانتظار فيضان، وبثق في الفرات في سنة الظهور المبارك ، يؤدي في النهاية إلى غرق البصرة بالكامل، فلا يبقى الاّ مسجدها كجؤجؤ طير في لُجّة بحر ، كما وصف ذلك الإمام علي(ع)، فلا يفرح دُعاة الفيدرالية الجنوبية بمستقبل البصرة و نفطها!!
أبعاد طبيعية : فقد أفسدت الدول الصناعية والأنظمة الجاهلة التي تسير على خطاها أفسدت في الطبيعية فساداً خطيراً بسبب التلويث الصناعي والتلويث الإشعاعي ، وظهرت ظاهرة ما يسمى ( الاحتباس الحراري ) وزيادة درجة حرارة الأرض بمعدلات خطيرة بسبب هذا التلوث وظهور ما يسمى بـ (الثقوب) في طبقة الأوزون مما يؤدي إلى نفاذ الأشعة فوق البنفسجية إلى الأرض وما لذلك من خطر شديدة على حياة الكائنات الحية . فاستدارة الفلك كفيلة بمعادلة كل هذا الفساد قبل الظهور المبارك لنقل الحياة إلى واقع جديد . وجاء في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام يتناول فيها هذا الأمر وعلاماته فقال عليه السلام (فإذا كان ذلك ، كان الولد غيظاً ، والمطر قيضاً ، وتفيض اللئام فيضاً ، وتغيض الكرام غيظاً) (159)، فقوله عليه السلام ( والمطر قيضاً ) هو إخبار عن ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار وشحة المياه .
أبعاد صحية ونفسية : فإنها ستنقل أهل الأرض إلى موقع جديد أكثر بعداً عن مركز الكون حيث تشتد التأثيرات الكهرومغناطيسية على المخلوقات وعلى الإنسان خاصة وتحدثنا عن ذلك سابقاً وماله من علاقة بفترة التمحيص والاختبار ، وماله من علاقة بطول عمر الإنسان والكائن الحي عموماً .
وهناك أبعاد أخرى كثير غير ذلك ربما نكون في هذا الوقت غير ملتفتين إليها أو لم نحط علماً بارتباطها بهذه العلامات ، وتكفي هذه الأبعاد لضرب المثل فقط بأن العلامات ليست للتنبيه ، بل هي عملية بناء نظام جديد وهدم نظام قائم ، وورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تشبيهاً بقولهم (نظام كنظام الخرز يتبع بعضها بعضاً) هو ليس المقصود تسلسلها من حيث الترتيب كأولويات أو دقة في صحة الأخبار عنها ، بل لأنها سلسلة مترابطة من حيث الأسباب والنتائج ، أي أن بعضها سبب لبعض ، وبعضها نتيجة لبعض ، فهي نظام دقيق لعملية بناء نظام كوني جديد، يليق بالاستخلاف القادم وضروري له كوعد إلهي لهذا اليوم الموعود المبارك ، وما شاء الله أن يكون.
وفي حديث لرسول الله صلى الله عليه و آله قال ( تكون السنة كنصف السنة ، السنة كالشهر ، السنة كاليوم ).. فتلاحظ من هذا الحديث كيف تبدأ السرعة بالتضاعف التدريجي ، من ضعف ثم إلى اثني عشر ضعف ثم إلى ثلاثمائة و ستين ضعف ثم إلى سرعة عالية لا يلاحظ الاّ شروق وغروب سريع جداً للشمس بحيث يكون اليوم كالومضة ، ثم يحصل الانقلاب للأقطاب عند وقت العصر، ويبدأ اللبوث و تباطؤ الدوران . وسؤل رسول الله (ص)عن الصلاة في هذه الحالة ، فقال ( تقدرون الصلاة فيها تقدير) ، أي إن كل ومضة هي يوم عند الله سبحانه ، وتجب فيه الفرائض الخمسة بالتقدير.
وفي الدر المنثور ، اخرج احمد و الترمذي عن انس عن النبي (ص) قال : ( لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة ، و الجمعة كاليوم ، و اليوم كالساعة ، و الساعة كالضرمة بالنار . وفي حديث آخر كاحتراق السعفة. ) (160) .
وفي كنز العمال : (إذا اقترب الساعة تقارب الزمان ، فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة ، والجمعة كاحتراق السعفة في النار (عن أبي هريرة ) (161).
وإذن فهذه العلامات ليست للتنبيه ، بل إنهم عليهم السلام يصفون عملية التغيير الكوني في استدارة الفلك وكيفية حدوثها والله أعلم .وسيبين لنا في الجزء الرابع في موضوع ( الأمر الإلهي) حقائق أكبر و أوضح في معنى علامات الظهور إن شاء الله .



المستخلفون والوعد الحق :
بعد أن تبين لنا من خلال السنن الإلهية ما جرى للأمم السابقة وثبوت جريان هذه السّنة في أهل الأرض أثناء وقوع هذا الوعد الإلهي ، كيف سيتم الاستخلاف في هذا اليوم الموعود على ضوء السنن الماضية ؟
الصورة الأولى التي رسمها القرآن الكريم لوضع العالم قبل بدء المرحلة الحاسمة من الظهور المبارك ومجيء الوعد هي صورة زاهية ومغرية توحي بالغرور لكل الناظرين إليها، ويشعرون بأنهم امتلكوا مفاتيح كل شيء وقادرين على كل شيء ، فكل شيء هو في قمة التقدم والتطور، والسيطرة على مفاصل كل شيء تبدوا أمراً مفروغاً منه، وليست المسألة سوى مسألة بعض الوقت لوضع اللمسات الأخيرة للعولمة البديلة … عولمة الانقلابيين ، قال تعالى ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وإزّيّنت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ) (162) ، وكثيراً ما يجادلنا الماديون منذ فترة مغترّين بما وصل إليه العلم من التقدم وهم يقولون ما قاله قارون في القرآن ( أنما أوتيته على علم عندي ) ويقولون: فانظروا إلى أين سيصل العالم بعد مائة سنة أو ألف سنة ؟ وعندما نسألهم ، أين سيصل ؟ يقولون : سيكون هو الإله …نقول قوله تعالى ( قل انتظروا أني معكم من المنتظرين ) وعلى أية حال من هنا تبدأ المرحلة الأولى ، من مرحلة التمكن والاقتدار والغرور بهذه المقدرة ، ثم يأتي أمر الله سبحانه ( أتاها أمرنا ليلاً اونهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ) (163) .
فما هو هذا الأمر الذي يأتي ؟
قال تعالى ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) (164)… إذن فهي سُنّة الله في عاد وثمود وقد بيّنا سُنّة الله فيهم وما جرى لهم وكيفية إهلاكهم واستخلاف قوم آخرين ، فهل سنتهم وحدها هي الجارية ؟
قال تعالى ( أ فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها ) (165) .
فقوله تعالى ( وللكافرين أمثالها ) أي إنه ما من أمّة جرت فيها سُنّة إلهية إلاّ وهي واقعة في هذه الأمة وأهل الأرض من سنن الهلاك وفي نفس المعنى قال تعالى ( فهل ينتظرون إلاّ مثل أيام الذين خلوا من قبلهم * قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) (166) .
إذن كيف سيبدأ الأمر ؟
إن مما يستفاد من الأحاديث النبوية والروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام إن هذا الأمر سيقع على ثلاثة مراحل:
المرحلة الأولى:
وهي مرحلة الحروب التقليدية وبالأسلحة التقليدية ولا أستطيع وضع فترة محددة لهذه المرحلة إلاّ أننا نعتقد بأنها هي سنوات ( الحيرة ) "ست" أو "سبت" على روايتين مختلفتين ، أي ابتداء من الغزو الأمريكي تبدأ الحيرة وتستمر سبت ، أي اسبوعا أي سبع سنوات ، أو ست ، بمعنى ست سنوات ، حيث ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : تكون حيرة ، قيل كم تدوم ؟ قال : ست . وفي رواية قال : سبت
وفي هذه المرحلة تتم المراحل النهائية من زمن الكرّة لبني إسرائيل على المسلمين وسيتم احتلال اليهود لأغلب بلاد المسلمين . الذي يهمنا في هذه المرحلة في هذا الموضوع هنا ، هو( الإهلاك ) فسيتم في هذه المرحلة هلاك حشود غفيرة من الذين قضى الله سبحانه بهلاكهم تمهيداً للاستخلاف القادم .
وقبل نهاية هذه المرحلة وقبل بدء المرحلة الثانية سيتم الوعد الإلهي بنزول الآيات ، وبناء على ما جاء في الروايات فإن الآيات الكبرى ستبدأ في شهر رجب الذي فيه العجب، أي قبل بدء المرحلة الثانية بشهرين تقريباً وهي فترة كافية للتوبة لمن يريد أن يتوب إذا شاء الله سبحانه أن يتقبل توبته إن كان صادق النية .
ويبدأ نزول الآيات بظهور ( نجم الآيات ) المسمى ( ذو الشفا ) كما جاء عن الأمام الصادق عليه السلام .
وفي هذه الفترة وردت آيات في القرآن الكريم وعدت بذلك في عدة سور قرآنية متفرقة كقوله تعالى ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (167) ، وقوله تعالى ( وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ) (168) .
وبالطبع فإن هذه الفترة ستكون ضمن فترة ظهور السفياني واليماني وستكون فترة اشتعال الحروب التقليدية على أوجّها والتدخّلات الخارجية في المنطقة العربية عموماً، والعراق والشام خصوصاً على أوجّها أيضا ، وسيشهد العراق خلالها الحرب بين الترك وإخوان الترك وبين والروم، والتدخّل الإيراني بدخول الخراساني وجيشه على أثر الغزو الأمريكي لإيران، وتداعي الأمم الأخرى إلى هذه المنطقة،ثم دخول السفياني، وستشهد المنطقة سفك دماء كثيرة وقتل ذريع يكون المرحلة الأولى من مراحل الهلاك الذي يسبق الاستخلاف عادةً في السنن الإلهية في الأمم .
المرحلة الثانية :
وتبدأ المرحلة الثانية في النصف من رمضان يوم الجمعة ضحى، وهي الحرب التي سيتم فيها استخدام أسلحة الدمار الشامل ، وحددت الروايات أربعة مناطق في الدول العربية تشملها هذه الضربات النووية كما يبدو لنا – والله أعلم – وربما يكون أحد هذه الضربات صاعقة إلهية وهو الخسف في البيداء ، أما المدن الثلاث الأخرى فهي كما ورد في الروايات ( الزوراء – الشام – المغرب ) ، أي بغداد ودمشق والمغرب ، وإذا تطلّعت في واقع هذه المدن الثلاث في تاريخها فإنك ستجد إن هذه المدن الثلاث هي عواصم الانقلابيين عبر التاريخ أو ما يسمونه تاريخياً ( عواصم الخلافة الإسلامية ) وهذا هو السر في الانتقام الإلهي من هذه المدن الثلاث .
فالزوراء : عاصمة الدولة العباسية .
ودمشق : عاصمة الدولة الأموية في الشام
والمغرب : عاصمة الدولة الأموية في الأندلس .
ومع اشتعال هذه الحرب بهذه الطريقة الجنونية ستنتقل العدوى والتوتر إلى الدول الأخرى والأمم الأخرى وسيتم استخدام أسلحة الدمار الشامل بشكل جنوني تماماً حتى تدمر بلاد ، وتباد شعوب ويهلك أكثر أهل الأرض خلال هذه المرحلة الثانية من الحرب ،وأهمها خراب العراق و الشام و مصر بأيدي خوارج المغرب العربي، ثم الملحمة الكبرى مع الروم ، ثم فتح بيت المقدس، وقد تطرقنا إلى هذا الموضوع سابقاً ،وسنتابع بعض تفاصيله في الجزء الرابع إن شاء الله، ولكننا الآن نبحث في سُنّة الهلاك الذي يسبق الاستخلاف، لنرى بان الذي يحصل ليس حرب من أجل السيطرة والنفوذ ، بل حرب من أجل الهلاك … وللهلاك وحده ، سُنّة الله التي خلت في عباده ولن تجد لسُنة الله تبديلا .
المرحلة الثالثة :
وأما المرحلة الثالثة فهي حرب الظهور وقائد هذه الحرب هو الإمام القائم المهدي (ع) نفسه ، القائد الذي لا ترد له راية أبداً ، كما جاء في الروايات وينصره الله بالرعب الذي يزلزل به قلوب أعداءه، وهذه المرحلة ستكون بفصلين
الفصل الأول : وهي الحرب العسكرية التي يقودها الإمام ( عج ) ضد أعداءه وتستمر ثمانية أشهر ، فقد جاء في الروايات أنه عليه السلام ( يحمل سيفه على عاتقه ثمانية أشهر ) يبسط خلالها سلطته على بلاد المسلمين عموماً وعلى البلاد التي دخلها الإسلام سابقاً ثم تراجع عنها، وتشمل بعض الدول الأوربية كما يفهم من الروايات ( والله أعلم ) وما نحتمله من بين ذلك هو أسبانيا وإيطاليا وبعض دول البلقان كألبانيا والبوسنة وبعض دول القوقاز وعلى حدود الصين حيث يشمل الرقعة التي تبلّغت بالإسلام سابقاً وعرفته حقيقة ثم تراجعت عنه ، ويكون ذلك قبل عقد هدنة صلح مع الغرب بوساطة السيد المسيح عليه السلام فترة عشرة أعوام يتم نقضها من الغرب تماماً كما حصل في ( صلح الحديبية ) حيث بعد هذا النقض للهدنة الذي يحصل بعد عامين يقوم الإمام ( ع ) باستكمال فتح جميع أرجاء المعمورة من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي .
وخلال الفصل الأول من الحرب التي تشمل البلاد الإسلامية والبلاد التي دخلها الإسلام سابقاً سيقتل خلق كثير.
الفصل الثاني :
وإما الفصل الثاني من حرب الإمام ( عج ) فهي ( الفتح المبين ) وظهور الدين على الدين كله ، كما سيبين ذلك من سورة الرحمن في محلها .
وجاء في غيبة النعماني في رواية عن الإمام الباقر (ع) قال ( لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم أن لا يروه مما يقتل من الناس ، أما أنه لا يبدأ الاّ بقريش فلا يأخذ منها الاّ السيف ولا يعطيها الاّ السيف، حتى يقول كثير من الناس : ليس هذا من آل محمد ، لو كان من آل محمد لرحمنا ) ، وذلك لكثرة ما يقتل من مفسديهم وارجاسهم وما أكثرهم ، بل أنه جاء في الروايات بأنه عليه السلام يبدأ بتطهير الشيعة أولاً من الذين فشلوا في فترة التمحيص ، وكما يبدو لنا بان على رأس هؤلاء هم الذين حذّرهم الله سبحانه بقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولّهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ، فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين ) (169) .
وهؤلاء هم الذين يوادّون قوات الاحتلال ويقيمون معهم العلاقات الودية ويتقربون إليهم ويتبادلون معهم المعلومات والتعاون الأمني ، من أجل الأمور الدنيوية ونسوا حظاً مما ذّكروا به ، فهؤلاء أول من يقع سيف الإمام القائم ( عج ) على رقابهم ، وسيكون في البلاد العربية كثير مثلهم في المراحل اللاحقة من الاحتلالات التي ستقع في الوطن العربي . الاّ إن هذه المراحل جميعها سيرافقها من غير الحروب أمور أخرى كالزلازل و الكوارث و الأمراض الوبائية و غيرها . والحديث عن أحوال الشيعة عند الظهور، في الحقيقة حديث محزن ومؤسف، لما سيكون من ارتدادهم عن عقيدتهم كما أخبرت بذلك الروايات، كقول الإمام الباقر(ع) في غيبة الطوسي:
عن أبي جعفر عليه السلام قال: ( والله لتمحّصنّ يا معشر الشيعة،شيعة آل محمد،كمخيض الكحل في العين ،لان صاحب الكحل يعلم متى يقع في العين ولا يعلم متى يذهب، فيصبح أحدكم وهو على شريعة من أمرنا ،فيمسي وقد خرج منها، ويُمسي وهو على شريعة من أمرنا فيصبح وقد خرج منها ) (170).
وعلى أية حال يتبّين مما جاء في الروايات والذي هو تفسير لباطن كثير من آيات القرآن الكريم بأن جملة من يقتل من أهل الأرض في هذه المراحل الثلاث هو الأعم الأغلب من أهل الأرض ، وكما ذكرنا سابقاً عن الأمام الصادق ( ع ) بان نسبتهم هي( من كل تسعة سبعة) ، وجاء في أحد الروايات عن المعصومين عليهم السلام بأنهم ( ثلاثة آلاف ألف ألف ) أي ثلاثة مليارات شخص .
وجاء في الروايات بأن المقتلة العظيمة ستكون في الرجال ، حيث يكون نسبة الرجال إلى النساء بعد انتهاء الأمر هي نسبة خمسين إلى واحد وهو أمر طبيعي ، حيث يكون الاقتتال بين الجيوش بالدرجة الأولى ، ورغم إن هذا الرقم المخيف يبدو أكبر مما يستوعبه العقل أو التصور إلاّ إننا يجب أن نلتفت إلى أننا في عملية استخلاف ، وكما تبيّن من السنن الإلهية فأن استخلاف قوم أو أمة لا يكون إلاّ بإهلاك المجرمين والمفسدين والكافرين، وهم الكثرة، ولا تبقى إلاّ القلّة المؤمنة فقط .
وجاء في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام تأكيد على هذه الحقيقة ، قال عليه السلام ( فلا يبقى منكم إلاّ نُفاضة كنُفاضة العِكْم ، أو ثفالة كثفالة القدر ) ، والعكم هو كيس الطحين ، فمثّل عليه السلام نسبة الهالكين إلى الناجين كنسبة ما يحويه كيس الطحين المملوء بالطحين، إلى ما تبقى عند نفضه من غبار الطحين ، أو كنسبة ما يحويه قدر الطعام من الأكل، إلى ما تبقى في أسفل القدر من الحثالة التي تحرقها حرارة النار ولا تصلح للأكل .
إن مما يتبيّن من سنّن الماضين هي غفلتهم عن نزول آيات هلاكهم، فأن منهم من رأى الريح المصفّر الذي ينطوي على أسباب عذابهم وإهلاكهم قالوا كما قال الله تعالى عنهم في كتابه الكريم ( قالوا هذا عارضٌ ممطرنا بل هو ما كنتم به تستعجلون ) فإنهم لن يلتفتوا إلى هذه الآيات إلاّ كظواهر كونية غريبة يشغلهم التفكّر فيها كظواهر عن التفكّر في مسبّبها وسبب إرسال هذه الآيات إليهم ، حتى يروا اعظم آية ، وهي طلوع الشمس من مغربها ، فعند ذلك يؤمنوا ، ولكن يكون الأوان قد فات .
في صفات المستخلفين :
إننا عندما نتحدث عن المستخلفين في هذا الاستخلاف فإننا نقصد الذين يقوم بهم الاستخلاف وليس كل الناجين من الهلاك ، ويأتي في مقدمة هؤلاء هم المؤمنون بالإمام المهدي وقضيته ويسعون لهذا الأمر بإخلاص وهم بكل تأكيد درجات متفاوتة في درجة إيمانهم وإخلاصهم وجدّهم بانتظار هذا الأمر، ويأتي على راس هؤلاء هم أصحاب الأمام المهدي ( عج ) وهم الثلاثمائة وثلاثة عشر ويأتي بعدهم في المنزلة هم جند الأمام أو الجيش الذي ينظم إلى دعوة الأمام في أوائل الظهور أو أوائل الدعوة .
ولابد لنا من أن نتعرّض بشيء من التفكّر في هذه النخبة المصطفاة من أهل الأرض ، وهم الأصحاب الثلاثمائة وثلاثة عشر وصفتهم ، فإن النصوص الواردة في ذكرهم وفضلهم كثيرة جداً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن الأئمة الأطهار سلام الله عليهم ، بل إن أهم نص في ذكر فضلهم ومنزلتهم هو ما ورد في الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى هدية إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وآله ( بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتابٌ من الله العزيز الحكيم لمحمد نوره وسفيره وحجابه ودليله نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين ) ويذكر فيه الأوصياء واحداً واحداً بأسمائهم وصفاتهم ثم يختم الكتاب بقوله( ثم أكمل ذلك بابنه رحمة للعالمين عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب ، ستذل أوليائي في زمانه ويتهادون رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم فيقتلون ويحرقون ويكونون خائفين مرعوبين وجلين تُصبغ الأرض من دمائهم ، وينشأ الويل والرنين في نسائهم ، أولئك أوليائي حقاً ، بهم أدفه كل فتنةٍ عمياء حندس ، وبهم أكشف الزلازل وأدفع الآصار والأغلال ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) (171) وذكر هذا الكتاب في ( إلزام الناصب ) أيضا، والذي يهمنا هنا في هذا الموضع، هو ما ذكر من صفة الخوف والرعب والوجل التي تطغى عليهم نتيجة تعرضهم لأنواع الاضطهاد ، ويهمنا منزلتهم عند الله بقوله تعالى( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) والواقع رغم إن هذا الكتاب هو أكبر شهادة لقوله تعالى ( قل أي شيء أكبر شهادة ، قل الله شهيد بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) فلا نحتاج إلى شهادة أكبر من شهادة الله تعالى فيهم ، إلاّ أنه مع ذلك فإن هذا الكتاب يمكن النظر إليه على أنه في عموم موالي ومناصري قضية أهل البيت عليهم السلام أثناء الغيبة ولا يختص بالأصحاب المحددين ، حيث أنه يذكر الشهداء منهم على طول تاريخ الغيبة . إلاّ أن أهم النصوص الأخرى الواردة خاصة في صفة أصحاب الأمام ( عج ) هو ما ورد في خطب أمير المؤمنين عليه السلام وفي مرات متعددة تناول فيها هذا الأمر ، وسنحاول التقاط ما وقعنا عليه في الخطب المتفرقة بشأنهم رعاهم الله بحفظه وأمنه .
قال عليه السلام ( ألا فبأبي وأمّي من عدّةٍ قليلة أسماؤهم في السماء معروفة وفي الأرض مجهولة قد دنا حينئذ ظهورهم ) (172) . وقد أوردنا النص الكامل لهذه الخطبة في الجزء الأول من هذا الكتاب.
ـ قال عليه السلام ( قد انجابت السرائر لأهل البصائر ، ووَضَحَت محّجة الحقّ لخابطها وأسفرت الساعة عن وجهها ، وظهرت العلامة لمتوسّمها ) وفي هذا المقطع من الخطبة يصفهم عليه السلام بأهل البصائر ومتوسّمين لعلامات الظهور ، وإنهم يطلبون الحق فتتضح لهم محجّته ، وقوله (ع) : وظهرت العلامة لمتوسّمها، هو من قوله تعالى (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل* إن في ذلك لآيات للمتوسمين) (173) , ويبدو من ظاهر الآية ، إن المتوسمين هم الذين يتوسّمون علامات الظهور ويترقبونها،فهذه علامة لهم ، ولكن قوله تعالى بعدها( وإنها لبسبيل مقيم * إن في ذلك لآية للمؤمنين) (174) ،فرّقت هذه الآية بين المتوسمين و المؤمنين ، وقال الإمام الصادق (ع) بان الذي يتوسّم العلامة هو الإمام المهدي عليه السلام ويعرف العلامة بالِسَمة التي لا يعرفها غيره ،وهي علامة أيضا للمؤمنين الذين يعرفون العلامات بالإجمال وبشكل عام دون التوسُّم ، قال تعالى (وعلى الأعراف رجالا يعرفون كلا بسيماهم ) أي أن المتوسمين هم أصحاب الأعراف، وهم الشهداء على الخلق ، و المعني هنا هو الإمام المهدي (ع) ، ومعنى الآية إن هذه الصيحة آية و علامة للإمام المهدي (ع) ليستعد و يتهيأ للظهور ، ومن هنا جاءت الرواية عن الإمام (ع) بقوله (من ادعى المشاهدة قبل الصيحة و السفياني فكذبوه . ) .
ولكن في رواية أخرى عن الإمام علي(ع) يدخل بعض المؤمنين في صفة المتوسمين ،عن ابن عباس قال: قال أمير المؤمنين( عليه السلام): ( إتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، فقلت: يا أمير المؤمنين ،كيف ينظر بنور الله عز وجل؟ قال عليه السلام: لأنا خُلقنا من نور الله ، وخُلق شيعتنا من شُعاع نورنا، فهم أصفياء أبرار أطهار متوسمون، نورهم يضيء على من سواهم كالبدر في الليلة الظلماء. ) (175)، فوصف بعضهم بالمتوسّمين. ـ قال ( ع ): ( راية ضلالة قد قامت على قطبها ، وتفرّقت بشُعَبها ، تكللكم بصاعها وتخبطكم بباعها ، قائدها خارج من المِلّة ، قائم على الظُلّة ، فلا يبقى منكم يومئذٍ إلاّ ثُفالة كثفالة القدر ، أو نُفاضة كنفاضة العِكْم ، تَعْركُكُم عَرْك الأديم ، وتدوسُكم دوسَ الحصيد ، وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطير الحبّة البطينة من بين هزيل الحَبّ ( وفي هذا المقطع يتطرّق عليه السلام إلى السفياني وفتنته وضلاله وخروجه عن المِلّة ثم يعرّج عليه السلام على ذكرهم وقلّة عددهم – كما أسلفنا سابقاً – واستخلاصهم للقيام بالنهوض إلى صاحبهم ( عج ) ونصرته ، ثم قال عليه السلام :( أين تذهب بكم المذاهب ، وتتيه بكم الغياهب ، وتخدعكم الكواذب ، ومن أين تؤتون وأين تؤفكون ، فلكل أجل كتاب ، ولكل غيبة إياب ، فاستمعوا من ربّانيكم ، واحضروه قلوبكم ، واستيقظوا أن هتف بكم ، ولْيَصْدُق رائدٌ أهلهُ ، وليجمع مع شَمْلَهُ ، وليحضر ذِهنهُ ، فلقد فَلَقَ لكم الأمر فلق الخَرَزَة ، وقرَفَةَ قَرْفَ الصَمْغَة ) (176) .
وفي هذا المقطع حذّر عليه السلام ما حذّرنا منه في مجمل صفحات كتابنا هذا، ثم قال عليه السلام ( فلكل أجل كتاب ولكل غيبة إياب ) إشارة إلى انقضاء المدة المضروبة للتيه، وحلول أجل الظهور المبارك والعودة من الغياب الذي قضاه الأمام ( ع ) في غيبته الكبرى.
ورغم إن هذا النص تجاوز الهدف الذي نرميه من الإشارات إلى أصحاب الأمام( ع ) إلى الأمام نفسه(ع)، وأمر بالاستماع إليه وأتباعه ، وإحضاره القلوب والأسماع، وعدم الرد عليه بشيء من الرأي، ليس فقط بما ينكت الله سبحانه في قلبه من العلم ، بل أيضا لكونه الشاهد على التاريخ على مدى اثنا عشر قرناً شمسيا تقريبا، والشاهد على كل المؤامرات، والخبير بكل القضايا والأمور، وقد اكسبه ذلك حكمة لم تتوفر لأحد من الخلق على الإطلاق ، وللفائدة أوردنا بقية النص من الخطبة .وقوله(ع) وليصدق رائد أهله، فالرائد هو الذي تبعثه الناس ليتقصى لهم الحقائق .
قال عليه السلام ( وذلك زمان لا ينجو فيه إلاّ كل مؤمن نوَّمه إن شَهِدَ لم يُعَرِف ، وإن غاب لم يُفتَقد ، أولئك مصابيح الهدى وأعلام الثرى ، ليسوا بالمساييح ولا المذاييع البَذُر أولئك يفتح الله لهم أبواب رَحْمَتِهِ ، ويكشف عنهم ضّراء نقمته ) (177). وسنتطرق بعد إيراد النصوص إلى هذه المعاني والصفات بشكل مجمل، ولكن هنا نقطة مهمة يجب التنبيه إليها، فالنوّمة كما شرحه الإمام الصادق(ع) هو الذي يبدو للناس نائما بينما هو في اشد اليقضة، ويتظاهر بعدم الاهتمام ، و المسالمة بينما هو من المتربصين ، ومن المترقبين .
قال عليه السلام ( ألا وإنّ مَنْ أدركها منّا يسري فيها بسراج منير ، ويغدو فيها على مثال الصالحين ، ليحلّ فيها ربقا ، ويعتق فيها رقّاً ، ويصدع شِعْباً ويَشعَبُ صَدْعا، في سترةٍ عن الناس لا يبصرُ القائِفُ أثَرَهُ ، ولو تابعَ نَظَرَه ، ثم لَيَشحَذَنّ فيها قومٌ شَحْذَ القَيْن النَصْل ، تُجلى بالتنزيل أبصارهم ، ويُرمى بالتفسير في مسامِعِهم ، ويُغبقون كاس الحكمة بعد الصبوح) (178).
ويذكر عليه السلام في هذه الخطبة سيرة الأمام المهدي ( عج ) وبعض ممارسته لدوره أثناء اشتعال الفتنة، التي يكون الظهور على أثرها، ويذكر خفاءه وعمله دون أن يراه أحد أو يشعر به أحد ، ثم يُعرّج إلى توّلي الله سبحانه لأصحابه بالهداية والوعي والإدراك لحقائق القرآن ، وآياته وفهم التفسير الحق لها وإكسابهم وإيتائهم الحكمة البالغة، لتأهيلهم للدور الكبير المرسوم لهم ، وسنتولى هذا الأمر بالشرح فيما بعد هذا .
قال عليه السلام ( حتى إذا إخلولق الأجل ، واستراحَ قومٌ إلى الفتن ، واشتالوا عن لقاحِ حربهم ، لم يَمُنّوا على الله بالصبر ، ولم يستعظموا بذل أنفسهم في الحق ، حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء ، حمَلوا بصائرهم على أسيافهم ، ودانوا لربهم بأمرِ واعِظِهم ) (179).
ونلفت الانتباه في هذا المقطع إلى استنتاجاتنا التي سبقت في هذا الجزء من إن أجل التيه وحلول أجل الظهور هو وقت معلوم عند الله سبحانه، ولا علاقة بما يُدبرّه الخلق من تهيئة الظروف الملائمة أو الموجبة للظهور وهو ما ذهب إليه أكثر الباحثين المعاصرين .إلاّ من باب الإخلاص، للفوز برضا الله سبحانه .
وعدا هذه النصوص التي وردت في خطب أمير المؤمنين عليه السلام بخصوص أصحاب الأمام المهدي ( عج ) ، هناك أقوال أخرى وردت عن أمير المؤمنين والأئمة الأطهار سلام الله عليهم فضلاً عن الأحاديث النبوية الشريفة فيهم وهي كثيرة جداً ومتفرقة في الكتب التي تناولت موضوع الظهور منها قول الأمام علي (ع) ( كلهم فتية وليس فيهم من الكهول إلاّ كالكحل في العين ) وقوله ( ع ) ( يضع المهدي يده على رؤوسهم فيعطي أحدهم قوة أربعين رجل ويجعل قلوبهم كزبر الحديد ) وأقوال كثيرة يطول المقام بها سنكتفي بهذا القدر منها .
إلاّ أن أهم نص فيهم هو ماجاء به القرآن الكريم في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبونه أذلةٌ على المؤمنين أعزّةٌ على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليم )
إنّ هذه الآيات ، والنصوص عن المعصومين في أصحاب الإمام القائم المهدي ( عج ) تجعلنا ملزمين بالوقوف عند هؤلاء القوم ومعهم لنقتبس من نورهم ونتهذب بخلقهم ونستشعر وجودهم قبل فوات الأوان ، وقبل أن نندب حظوظنا العاثرة مرةً أخرى وننوح على أنفسنا " يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً "
وابتداءً أقول ، أن ما أثبتناه من خلال البحث في الأجزاء الثلاثة التي مرت بالدليل القاطع على قرب الظهور المبارك لصاحب الأمر( عج ) ، فإنه من اليقين الذي لا شك فيه عندي بأن هؤلاء القوم هم موجودون الآن بيننا ووجودهم هذا بيننا وجهلنا لهم وعدم معرفتنا لهم إن دلّ على شيء فإنما يدل على قصورنا وعدم تأهيل أنفسنا التأهيل اللائق وعدم ارتقاءنا إلى المستوى المطلوب لدخول مرحلة الاستخلاف، واستقبال أمر ظهور الأمام المهدي( ع ) بما يتطلبه منا من تربية أنفسنا وتأهيلها لكي نكون من المستخلفين . وهذا الشعور بالقصور يجعلنا ملزمين بالبحث الجدي في الظروف المحيطة بنا وموقفنا منها .
أن من التفكّر في النصوص التي وردت في هؤلاء القوم يدل على إنّهم أعلم أهل هذا العصر وأكثرهم حكمةً وأفقههم في كتاب الله ودين الله وهم الأكثر وعياً وإدراكاً لما يدور حولهم ، وأكثر عمقاً في نظرتهم للأحداث وأبعادها ، ورغم كل ذلك تجدهم على درجة من الانطوائية والعزلة نتيجة ما يتمتعون به من الحياء والأخلاق الكريمة وابتعادهم عن حُبّ الظهور والتفاخر ، والتزاحم على المنابر لإدعاء الأعلمية لأمور دنيوية . فهم مشغولون بتربية أنفسهم وتهذيب أخلاقهم بالعبادة وطلب العلم ، والتفكّر في أمور الدين ، وقد جعلهم تجاهل الآخرين لهم وربما احتقارهم لشأنهم مع علمهم وورعهم وتقواهم، جعلهم يميلون للانزواء والاعتزال، لما يشعرون به من اعتزاز بالنفس وحفظ للكرامة في مجتمع يسيطر عليه الجهلة والأدعياء والمتفيقهين وذوي الألسنة الحداد والمنافقين ، ووجود مثل هؤلاء القوم بيننا ينبغي أن يكون مدعاةً لنا للتواضع وطلب المشورة واحترام الرأي الآخر وعدم التسرع بالحكم على الأمور أو على الآخرين ، ومما يدور في هذا اللون من الأخلاقيات هو قول أمير المؤمنين عليه السلام ( من عَلِمَ منكم من أخيه وثيقة دين وسداد رأي فلا يسمعنّ فيه الأقاويل ) .
أن قوله تعالى (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) (180) يدلنا على أن هداية أصحاب الإمام المهدي (ع) ، وعمق إيمانهم وتربيتهم هي برعاية خاصة يتلّطف بها الله سبحانه وتعالى عليهم ، لكي يؤهلهم للدور المنوط بهم.
أن مما لاشك فيه بأن الظروف شديدة القسوة التي تمر بها وستمر بها البلاد العربية الأخرى لاحقاً نتيجة الاحتلال هي امتحان عسير وابتلاء فريد قلّما مرّت به الإنسانية من قبل ، نتيجة تباين الظروف وصعوبة الاختيارات بين الإمساك على الدين كجمرة في اليد وبين الانزلاق إلى إغراءات الارتداد والانحراف ، ولذلك ورد في الروايات بأن المجاهدين بين يدي الأمام المهدي ( عج ) لهم من الأجر ثلاثين ضعفاً مما لأهل بدر وهم المخصوصون بالمنزلة الرفيعة في القرآن ، وذلك للمعان الإغراءات التي لم تكن متوفرة في زمن أهل بدر ، فأن تمسّكت بدينك وقيمك وعقيدتك فلن تحصل من الاحتلال إلاّ على النار ، بينما ترى العملاء والمرتدين ينعمون بوافر النعمة والبذخ والترف بكل ألوانه في الوقت الذي يصارع فيه المؤمن الملتزم من أجل لقمة العيش لعائلته .
ففي غيبة الطوسي : عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله : سيأتي قوم من بعدكم الواحد منهم له أجر خمسين منكم، قالوا ، يا رسول الله نحن كنا معك ببدر واُحد وحُنين ونزل فينا القرآن ،فقال: لو أنكم تُحَمّلون لما حُمِّلوا لم تصبروا صبرهم . ) (181) .
فإذا تفكّرنا في حال هؤلاء القوم، أي الأصحاب وجدناهم قد بلغوا درجة من الزهد في الدنيا بحيث ينظرون بعين الرثاء لهؤلاء المرتدين ، ولمّا كان الناس على درجات متفاوتة من قوة الإرادة وشدة العزيمة في الصبر على الملمات، لذا فإن الكثير من المؤمنين بحاجة إلى وعي حقيقة ما يدور ، وارتباطه بفتنة الظهور ، ومثل هذا قوله تعالى في بني إسرائيل حين تأخر موعد استلام ألواح التوراة لبعض الوقت ، قال تعالى ( فلما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فهي كالحجارة أو اشد قسوة ) .
ولهذا فإننا نبذل جهدنا وبتوفيق من الله واتكال عليه سبحانه لإثبات قرب الظهور ، فلا يشعر المؤمنون بطول الأمد فتقسوا قلوبهم وينزلقون إلى ركب الهالكين في هذه الفتنة وتحبط أعمالهم ويكونوا من الخاسرين .
إن ما ورد في النص الخامس الذي أوردناه وقوله عليه السلام فيهم ( حملوا بصائرهم على أسيافهم ودانوا لربهم بأمر واعظهم ) يدل على إن الشجاعة التي يتحلى بها هؤلاء القوم، مع ما يبدو من ظاهر حالهم ، هي من نوع الشجاعة التي ليس لها نظير في أزماننا إلاّ في حالات فردية ظلّت شامخة على ماسواها ، وهي الشجاعة المستندة إلى قوة الروح وعمق الإيمان بالغيب ، والأقدام على الموت مع قرب بدء حياة أمن ورخاء وبركة، ما من مخلوق إلاّ ويتطلّع إليها ويرغب امتداد العمر فيها ، وتميّز هذه الحالة عن حالات إقدام على الانتحار أو الاستشهاد في ظل ظروف تدفع إلى اليأس وكراهية الحياة مع الذل أو الفاقة أو الاضطهاد بأي نوع كان ، ولهذا تختلف معايير الشجاعة باختلاف الدوافع واختلاف الآثار واختلاف العاقبة ، فإنه صحيح إن كثير من الاستشهاديين والمجاهدين يقدمون على الموت ولكن ذلك مع يأس من حياة فيها كرامة وأمان وخير .
وإضافةً إلى ما تقدم من صفاتهم فإن ما جاء في النص الرابع في قوله عليه السلام ( ثم ليشْحَذَنّ فيها قومٌ شحْذَ القين النَصْل ، تُجلى بالتنزيل أبصارهم ويرمى بالتفسير في مسامعهم ، ويُغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح ) من إن فتنة الدجال والسفياني والاحتلال العسكري الذي يرمي من وراءه اليهود تدمير البُنية النفسية للمؤمنين بالإمام المهدي (ع) وتدمير قواعدهم ومرتكزاتهم وأسس عقيدتهم بالإفساد، هي التي تكون آخر دورة تدريبية لشحن هؤلاء القوم بكل مقومات الاستخلاف ، وما يسبقه من استنهاض الروح الانتقامية والثأرية من الانقلابيين عبر كل تاريخهم في نفوس هؤلاء القوم خلال فترة البلاء ، ومن هنا يُسمّى الأمام المهدي ( عج ) بأنه ( ثأر الله ) ، أي لانتقامه لجميع الأنبياء و الرسل من أعدائهم، وبناء هذه الشخصية يتم بتربية إلهية نرى آثارها الآن من خلال إحياء الشعائر الحسينية والأمامية عامة وكثرة المحاضرين والمحاضرات وانتشار الوسائل الإعلامية التي تخلد قضية أهل البيت عامة، وقضية الحسين (ع) وارتباطها بقضية الأمام المهدي ( عج ) من وجهة نظرنا واستنتاجانا، والله يبسط لمن يشاء من عباده ، أنه اللطيف الخبير.
إن مما في سيرة حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام من الدروس والعبر التي تستنبط منها معرفة أصحاب الصراط السوي ما يمكن أن يكون رافداً لا ينضب للمعرفة العليا بعيداً عن الاجتهادات المبنية على رؤية ظاهر الأمور وسطوح الأشياء دون عمقها .
ففي حرب صفين وقبل ابتداءها رسمياً سيطر جيش معاوية على شريعة ماء الفرات قبل بدء المعركة ، ثم أمر الأمام علي عليه السلام جيشه باسترجاع الشريعة والسيطرة على المنطقة الوحيدة لورود ماء النهر ، فحدث أن تداعت القبائل والمجاهدين بأحسابهم وأنسابهم ورجزوا الأراجيز وأنشدوا الشعر في ذلك، حتى صالوا صولةً عظيمة على الفئة الباغية أصحاب معاوية وطردوهم عن شريعة ورود الماء ، إلاّ إن أمير المؤمنين عليه السلام خاطبهم قائلاً ( لا أجر لكم هذا اليوم ، فلقد قاتلتم بالحمّية ) ، ، ويتبين من موقف أمير المؤمنين عليه السلام وحكمه على عاقبة جهاد أصحابه وجيشه ، إن الجهاد في سبيل الله – الذي أعطاه الله سبحانه الدرجات العُلا والمنزلة الرفيعة ومقياس الإخلاص في الطاعة والعبادة – له مرتكزات ترتكز إلى نفس الإنسان ، وله ينابيع تأخذ دفقها من قلب الإنسان ، وله أهداف تبتني على مشاعره ، وغايات تنتهي إلى علمه وإدراكه ، فلكي يكون الجهاد جهاداً في سبيل الله لابد أن يكون خالصاً لوجه الله أولاً ، وداخلاً في الأبواب التي شرعها الله ثانياً ، وتحت الرايات التي نصبها الله لعباده ثالثاً .
ولكن الجهاد الدفاعي يقفز على كثير من هذه الأحكام ، أي الدفاع عن النفس ، واكبر فتنة تقع فيها الشيعة ـ حسب الروايات ـ ظهور إشكالات حتى في حق الدفاع عن النفس .
و سنخصص الجزء الرابع للحديث عن أحوال الشيعة في هذه الفتنة وما بينت الروايات كل شأن من شؤنهم ، وكيفية تفرقهم إلى فرق أكثرها على الباطل،ويصيبهم ارتداد مؤسف .
أن المستخلفين في كل ذلك وأشباهه من أعمال السوء كما وصفهم أمير المؤمنين عليه السلام حين وصف المتقين ( إن المؤمنين مستكينون ، إن المؤمنين خائفون ، إن المؤمنون مشفقون ) (182) ، ومع حالهم هذا فعندما يحين الأجل ويدعوهم " الداعي إلى شيء نُكُر" كما قال تعالى قفزوا من أوجارهم كالليوث الضارية لا يهابون الموت ولا يخافون عدوّ وكأنّهم وصاحبهم على موعد ، ثم وكأنهم وصاحبهم مع الفتح المبين والنصر العظيم على موعد ، بل إنهم على يقين بأنهم إنما يركضون إلى الجنّة وقد أزلفت لهم ، فهم على عجل لبلوغها قبل أن تغلق الأبواب .






مدلولات البحث :
أن الأمم السالفة ، ابتداءً بقوم نوح ثم عاد وثمود وأهل مدين ووصولاً إلى أمة النبي محمد صلى الله عليه وآله . ما جاءت أمة إلاّ كان قولهم لرسولهم ( إنْ هي إلاّ أساطير الأولين ) ، وأول من قال ذلك كما جاء فيما قصّ القرآن الكريم من قصص، قوم نوح ( ع ) ثم تبعه الآخرون ، ترى ما هو التقدم والتطوّر والتحضّر الذي وصل إليه قوم نوح (ع) حتى يتّهمون نبيّهم بأن دعوته( أساطير الأولين )، ومن هم هؤلاء الأولون المتهمون دائماً بالتخلف والجهل والخرافات ؟ وهل انتهت هذه التهمة عند حد أو توقفت عند قوم ؟
وقد أطلّعنا خلال كتابتنا لهذا الجزء ( الثالث ) على بحث في نفس الموضوع تحت عنوان ( الطور المهدوي ) . وهناك بحوث أخرى معاصرة لباحثين متأخرين، اغلبهم لديهم نفس النظرة ونفس القاعدة التي اتهمت الأمم السابقة رسلها بها، وهي ( أساطير الأولين ) ولكن ليس على أساس التكذيب بل على أساس عدم الأهلية . وقد صب هذا البحث جام غضبه وكال من الشتائم ما يوازي ربع البحث لما يسميه ( الاعتباط ) ، وتغافل أو جهل أساس المشكلة وهم الانقلابيين عبر كل تاريخهم منذ صراع ( هابيل وقابيل ) وإلى الساعة ، على اختلاف مذاهبهم ودياناتهم و سلالاتهم وأعراقهم وأصولهم وأجناسهم وطبائعهم ، فإنهم يمثلون وحدة عقائدية متحالفة وصفهم الله سبحانه بقوله ( أتواصوا به أم هم قوم طاغون ) ومرة أخرى قال تعالى ( تشابهت قلوبهم )، فكأن بعضهم أوصى البعض الآخر لما تشابهت قلوبهم وطبائعهم وأهوائهم . وارتكزت هذه البحوث على نتيجة مفادها (لجهل الخلق وبطئهم الشديد في فهم الرسالة ) (183)، هو الذي كان سبب الغيبة، وأنه انتظار لتطور البشرية حتى تصل إلى مرحلة من الترقي تكون فيه مؤهلة ( للطور المهدوي ) .
وهذا إفك عظيم واتهام خطير لا يجوز السكوت عنه ، لأنه يتّهم الرسالة المحمدية ومن أنزلها سبحانه وتعالى بأنها أنزلت في ظروف غير ملائمة، وإن الأمة غير مؤهلة لحملها في ذلك الوقت ، ولذلك لن يظهر الدين المحمدي على الدين كله حتى يبلغ ( الطور ) المهدوي ، في حين تجمع الأحاديث و الروايات على إن الأمة تكون في أسوأ حالاتها من (جهل ونفاق و ارتداد وكفر ) حتى يُلبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً كما وصفه الإمام علي (ع) وذلك في الفترة التي تسبق الظهور، ولنا وقفة طويلة إن شاء الله مع هذا البحث في بحوث خارج كتابنا هذا .
وابتداءً أقول ، لقد فسّر وشرح أمير المؤمنين عليه السلام حقيقة (الراسخون في العلم ) الذين امتدحهم الله سبحانه في كتابه الكريم فقال عليه السلام ( وأعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن اقتحام السُدد المضروبة دون الغيوب ، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله – تعالى – اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلفهم البحث في كنهه رسوخاً ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين ) (184).
أين هذا القول من ( الطور ) وما جاء به من الإفك بعد الإفك في عدة مجالات ، كقوله (إعادة ترتيب أيام الله) ،ظناً منه إن استدارة الفلك هي منتصف الزمن بين بدء الخلق و يوم القيامة وإن الزمن سيدور بالاتجاه المعاكس حتى يصل إلى نقطة الصفر، التي بدء منها الكون ، و يعود إليها،فتكون النهاية كما يظن ، وهو مخطئ بل إن التطور، للقرآن الكريم فيه القول الفصل ، وليس لداروين وأتباع مدرسته ، فالتطوّر في نص القرآن يشمل الفرد فقط لا الأمة ،وهو قوله تعالى (ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا) (185). ثم بين ماهية هذه الأطوار في سورة أخرى إذ قال تعالى
(فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) (186).
وقال تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين ) (187) .
فهذه هي أطوار خلق الإنسان عبر هذه المراحل ، فإذا بلغ أشدّه فلا تطوّر، الاّ في بعض الحالات يكون تطوّر سلبي يردّ إلى أرذل العمر لا يعلم معها شيء وينسى ما تعلّم .
وفي علل الشرائع عن الإمام الرضا (ع) إن كل طور من هذه الأطوار، مدته أربعين يوما اعتبارا من تخصيب البيضة ، حتى الولادة ، قال عليه السلام :
( ... لان الله تبارك وتعالى قدر خلق الإنسان ، فصير النطفة أربعين يوما ، ثم نقلها فصيرها علقة أربعين يوما ، ثم نقلها فصيرها مضغة أربعين يوما) (188) .
وعلى أية حال فلنا جميعا أخطاؤنا ، ولكننا لا ( نقطع و نجزم ) بل هي أطروحات قابلة للنقاش و النقد، مبنية على فهم الأحاديث و الروايات، واعتبارها فوق مستوى علمنا و إدراكنا، فما يتبين لنا نقول ببيانه، وما كبر علينا تركناه على حاله ، حتى يأتي تأويله من الله سبحانه وتعالى .
وعل أية حال نقول إن دولة الإمام المهدي ( عج ) هي ليست تطور حضاري أو عقلي وليست ترقي علمي وفلسفي ، إنها وعد إلهي وعده الله سبحانه للذين آمنوا أن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وهي سُنّة إلهية في الأمم ، وكان يمكن أن تعيش الأمة دولة المهدي في زمن أمير المؤمنين ( ع ) لو إنها تمسكت بكتابها ووصية رسولها ولم تنقلب على أعقابها ، ولأكلت الأمة منذ ذلك الوقت من فوق رأسها ومن تحت أرجلها ، ولفتح الله سبحانه عليها بركات من السماء والأرض ، ثم إنها لو تابت عند هذا الحد واستغفرت ربّها عما كان منها وأعادت الملك إلى أهل بيت الملك والنبوّة وتمسكّت بهم وأنزلتهم منزلتهم ، لكان الله سبحانه سيقبل توبتهم ويعفوا عنهم ويعيشون دولة الأمام المهدي ( ع ) مع أيٍّ من أوصياء الرسول صلى الله عليه وآله ، ولكن الجرم كان يتعاظم والإثم يتفاقم والمعصية تزداد ، فكلما جاء وصي قتلوه ، وهو ما أحاط الله به علماً قبل أن يكون، وكان جزاء الأمة أن يأخذها الله سبحانه بسنته التي لا تجد فيها تبديل ولا تحويل ، ومن ذلك سُنّة التيه التي أخذ بها بني إسرائيل . أخذ الله بها الأمة وجعلها، أو جعل مدّتها أضعافاً مضاعفة عما كان لبني إسرائيل ، ففرّق بينهم وبين حجّته عليهم وغيّبه عنهم مدة مضروبة الأجل ، معلومة عند الله سبحانه ، وبانقضاء أجل هذه المدة – التي أثبتنا إنها على وشك الانتهاء من خلال البحث – يأتي الوعد الإلهي بالاستخلاف الذي وعده للذين آمنوا ، وهذا الاستخلاف سُنّة إلهية في الأمم كما تبين لكم من خلال البحث في السنن الإلهية ، ليس فيه جديد ، وليس أمر مُحدث ، وكل ما نراه من تطور سريع في مجال العلوم والتكنولوجيا وسواها فهو من اشراط الساعة ، ويوم الوعد الحق الذي يظهر فيه أمر الأمام القائم المهدي على الدين كله، وعلى الأمم كلها وعلى الأرض كلها، رحمة بالعالمين وإقامة الدليل على قدرة الله ونفاذ مشيئته وبلوغ إرادته، التي تحدثت عنها كل الكتب المنزلة منه سبحانه، أنْ لو شاء الله أن يجعل الناس أمةً واحدة لفعل، ولو شاء أن يهدي الناس جميعاً لفعل، وأنْ لو شاء أن يقهر الخلق ويُكرِهُهم على الإيمان لفعل ، ومقابل كل ذلك لو أن الأمم أطاعت الله وتولّت من ولّى الله لعاشوا حياةً ليس فيها تعبٌ ولا نصَب ، ولاجوع ولا عُرى ، ولا شقاء ولا بلوى.
أن ما يسميه البعض تطوّرا وترقيا وظنّ أنه كان لزومياً لظهور دولة الحق ليس في حقيقة الأمر إلاّ عرض الحياة الدنيا ، ومن نِعَم الله على الخلق مؤمنين كانوا أم كافرين (كلاّ بل نمدّ هؤلاء وهؤلاء وما كان عطاء ربك محظورا ) ، والموعود في كتاب الله ، أن ذلك سيدمر تماما لأنه مبني على جرفٍ هارٍ ، وسيبين لنا ذلك بوضوح من خلال قول أمير المؤمنين (ع) في سورة الكهف ، بقوله تعالى ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) .
أما التطوّر والترقي والوعي والإدراك ، فإنه قائم في قلوب المؤمنين بنفس الدرجة من الثبات واليقين ، في قلوب نوح والذين آمنوا معه ، وهود والذين آمنوا معه ، وصالح والذين آمنوا معه ، ولوط والذين أمنوا معه ، وإبراهيم والذين آمنوا معه من ذريته ، والذين آمنوا من بني إسرائيل ، والذين آمنوا بالنبي الأمي، وأمير المؤمنين، والحسن والحسين وأولادهم المعصومين صلوات الله عليهم ، وفي الأمام المهدي والمؤمنين به ، كل هؤلاء وحدةً واحدة من(التقدم والتطور) والوعي والإدراك، و العلم الراسخ ، بعضهم من بعض.
أما كون إن أجل هذا الوعد كان بعيداً نسبياً ، فذلك بما كسبت أيدي الناس ليذوقوا وبال أمرهم وما فعلته أيديهم وما سوّلت لهم أنفسهم ، بكفرهم بنعمة الله، الذي أنعم عليهم برسوله الكريم وأهل بيته الطاهرين المطهرين، فأحَلّوا قومهم دار البوار ، بل أحَلّوا الأمم كلها وأهل الأرض كلهم دار البوار ، فكان لزاماً أن يلمسوا عواقب ما فعلت أيديهم، ويعلموا أن الله سبحانه لم يصطفي آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين عبثاً أو لهوىً فيهم ، وسبحان الله عمّا يظّن الجاهلون وللحديث شجون .
وخير ما نختم به هذا الجزء ( الثالث ) هذه القطعة من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام وهو يوصي شيعته والمؤمنين بولايته، بما يأخذون به من أمر في هذه الفترة القصيرة المتبقية قبل ظهور الحق وصاحب الأمر ( عج ) قال عليه السلام ( ألزموا الأرض ، واصبروا على البلاء ، ولا تُحرّكوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم ، ولا تستعجلوا ما لم يُعجلّه الله لكم ، فإنه من مات مِنكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّهِ وحقّ رسولهِ وأهلِ بيته مات شهيداً وَوَقَعَ أجرهُ على الله ، واستوْجَبَ ثوابَ ما نوى من صالح عَمَله ، وقامت النيّة مقام إصلاته لسيْفِهِ فإنّ لِكُلّ شيء مُدّةً وأجَلَ ) (189) .
ولتبريد قلوبكم وإثلاج صدوركم مما ورد ، فآخراً قال عليه السلام ( لَتَعْطِفَنَّ الدنيا علينا بَعْدَ شماسِها عَطْفَ الضَرُوس على ولْدها ، وتلا – عليه السلام عقيب ذلك – ونريد أن نمنّ على الذين استَضعَفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين ) (190) .
والحمد لله الذي بَسَط لنا في القول ، وأجلى بالتنزيل بصائرنا ، وألقى بالتفسير في مسامعنا ، أنه يمُنّ على من يشاء بما يشاء، وهو ذو الفضل العظيم ، وصلّى الله على المبعوث رحمة للخلق، وآله الداعين للحق، وسَلّم تسليما ) .
وبهذا نختم هذا الجزء من البحث ، متفاعلين مع الأحداث ومستنبطين من كتاب الله ، ومستكشفين غوامض وأسرار ما جاءت به الأحاديث النبوية وروايات العترة الطاهرة ، ومدلولاتها على تطورات الأحداث القادمة في أجزاء جديدة إن شاء الله ذلك ، أنه ولي نعمتي وهو خير مولى وخير نصير ) .

ختم في ليلة القدر 1424 هـ
انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أن شاء الله



1( ) البقرة 30
2( ) سورة طه 123
3( ) سورة مريم 59
4( ) الاعراف 169
5( ) الاسراء 16
6( ) الانعام 129
7( ) الاحزاب 62
8( ) الكهف 200
9( ) فاطر 43
10( ) الشورى 13
11( ) المائدة 48
12( ) سورة طه 123
13( ) النساء 54
14( ) المجادلة 21
15( ) الاسراء 59
16( ) غافر 51
17( ) التوبة 40
18( ) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 6 / 122
19( ) الانعام 177
20( ) النساء 80
21( ) الغاشية 22
22( ) البقرة 272
23( ) المائدة 26
24( ) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 9 ص 283
25( ) الانفال 33
26( ) الزخرف 41
27( ) الهداية الكبرى ـ الحسين بن حمدان الخصيبي ص 150
28( ) نوح 4 ، 5 ، 26
29( ) السجدة 21
30( ) الاعراف 130
31( ) الاسراء 58
32( ) المائدة 66
33( ) الاعراف 96
34( ) التوبة 14
35( ) التوبة 39
36( ) الطلاق 8 ، 9
37( ) البقرة 55
38( ) البقرة 108
39( ) الحج 47
40( ) الاسراء 59
41( ) العنكبوت 50
42( ) الانبياء 37 ، 38
43( ) الاسراء 59
44( ) الاعراف 171
45( ) غيبة النعماني ص 272
46( ) فصلت 5
47( ) النمل 93
48( ) المعجم الاوسط للطبراني ج 4 ص 10
49( ) نوح 27
50( ) يس 41
51( ) الارشاد للشيخ المفيد ، بحار الانوار 52 / 175
52( ) التوبة 128
53( ) النمل 62
54( ) البحار 52 /
55( ) هود 64
56( ) خاتمة المستدرك ـ الميرزا النوري ج 3 ص 288 ، كذلك في المناقب لابن شهر آشوب ,
57( ) الاحتجاج للطبرسي
58( ) سورة الشمس
59( ) النمل 82
60( ) هود 67 ، 68
61( ) الروم 51
62( ) هود 81
63( ) مدينة المعاجز ج2 حديثه (ع) مع الراهب الذي امره ببناء مسجد براثا .
64( ) هود 82 ، 83
65( ) الارشاد للشيخ المفيد ص 357
66( ) هود من الآية 83
67( ) هود 93
68( ) الدخان 10
69( ) الدخان 59
70( ) الاحزاب 62
71( ) هود 94
72( ) سورة ص 15
73( ) ص 15
74( ) سورة عبس
75( ) الاعراف 143
76( ) سورة القمر
77( ) العنكبوت 47
78( ) العنكبوت 50
79( ) الأنعام 158
80( ) الاعراف 69
81( ) الشورى 18
82( ) القمر42
83( ) هود
84( ) البقرة 123
85( ) التوبة 169
86( ) آل عمران 137
87( ) شرح نهج البلاغة ج 16 ص 79
88( ) البقرة
89( ) سورة الحجر 10 ـ13
90( ) المائدة 60
91( ) الميزان في تفسير القرآن
92( ) النساء 47
93( ) سورة يس 76
94( ) سورة ق
95( ) الدر المنثور ج 3 ص 57
96( ) مختصر بصائر الدرجات في خطبة المخزون
97( ) الدر المنثور للسيوطي ج3 ص 59
98( ) الدر المنثور 3 / 60
99( ) الدر المنثور 3 / 60
100( ) نقلا عن تفسير نور الثقلين ـ الشيخ الحويزي ج 1 ص 714
101( ) سورة الشعراء الآيات 119 ـ 121
102( ) الشعراء الآيات 132 ـ 139
103( ) الشعراء الآيات 141 ـ 158
104( ) الشعراء الآيات 160 ـ 174
105( ) الشعراء الآيات 176 ـ 190
106( ) كنز العمال ـ المتقي الهندي ج 2 ص 565
107( ) الأعراف 64
108( ) الأعراف 70
109( ) الأعراف 72
110( ) الأعراف 76 ـ 78
111( ) الأعراف 82
112( ) الإسراء 76 ، 77
113( ) الأعراف 83 ، 84
114( ) الأعراف 88
115( ) الأعراف 91 ، 92
116( ) القمر 6
117( ) القمر 9
118( ) القمر 18
119( ) القمر 18 ـ 21
120( ) القمر 23 ، 31
121( ) القمر 33 ـ 39
122( ) القمر 42
123( ) القمر 43
124( ) سورة القمر 45
125( ) القمر 46
126( ) يشير المؤلف الى رواية ( مئة عام من العزلة ) لمؤلفها ـ غابريل غارسيا ماركيز
127( ) سورة البروج
128( ) الفرقان 23
129( ) البقرة 30
130( ) الصافات 165 ، 166
131( ) تفسير فرات الكوفي- فرات بن إبراهيم الكوفي ص 56 :
132( ) البقرة 38
133( ) الاعراف 35
134( ) يونس 13 ، 14
135( ) الاعراف 59 ، 64
136( ) هود 40
137( ) الاعراف 69
138( ) الاعراف 72
139( ) الاعراف 74
140( ) هود 66 ، 67
141( ) الاعراف 83 ، 84
142( ) هود 89
143( ) هود 94
144( ) ابراهيم
145( ) البقرة 124
146( ) النمل
147( ) آل عمران 144
148( ) الانعام 133، 134
149( ) النور 55
150( ) الكهف 98
151( ) الاسراء 7
152( ) سورة سبأ 29
153( ) الانبياء 96 ، 97
154( ) الانبياء 97
155( ) الشعراء 4
156( ) سورة يس 48
157( ) يس 49
158( ) النمل 71 ، 72
159( ) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 7 ص 226
160( ) الدر المنثور للسيوطي ج 6 ص 55
161( ) كنز العمال ـ المتقي الهندي 14 ص 227
162( ) يونس 124
163( ) يونس 24
164( ) فصلت 13
165( ) سورة محمد 10
166( ) يونس 102
167( ) فصلت 53
168( ) النمل 93
169( ) المائدة 50 ، 51
170( ) غيبة الطوسي ص 399
171( ) اكمال الدين للصدوق ص 304
172( ) شرح النهج 13 / 213
173( ) سورة الحجر 75
174( ) سورة الحجر 76 ، 77
175( ) بحار الانوار 25 / 21
176( ) شرح النهج 7 / 224
177( ) شرح النهج 7 / 197
178( ) شرح النهج 9 / 435
179( ) شرح النهج 9 / 435
180( ) المائدة 111
181( ) غيبة الطوسي ص 457
182( ) نهج البلاغة
183( ) الطور المهدوي ص 236
184( ) نهج البلاغة ص 156
185( ) نوح 14
186( ) سورة الحج 5
187( ) المؤمنون 13 ،14
188( ) علل الشرائع ج 2 ص 345
189( ) شرح النهج ج 13 / 219
190( ) شرح النهج 19 / 336

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق